من لبنان

من لبنان" أنطلياس"..الى كندا..بكرا أنت وجاي رح زيّن الريح.. بقلم مروان صواف

شواهدُ ثلاثة .. شاهد أول : عندما يقع الظلم تضيق الأرض - الأرض ملك الكل ولكنها لاتتسع للناس والظلم في وقت معاً , ابك ياريح على أهل جبال الصوان " من مسرحية جبال الصوان 1969 ".

شاهد ثان: انفجار القنابل فضي بلون الشمس ,ناس بالخنادق وناس بالبارات , العدالة كرتون وكل حكم بالأرض باطل " اللحظات الإخيرة من مسرحية لولو للأخوين رحباني ",

شاهد ثالث: لاتهملني لاتنساني ياشمس المساكين , ناديتك من حزني عرفت أنك معي , وسعي يامطارح وياأرض اركعي " من مسرحية ناطورة المفاتيح" - ظاهرياً , لعلك تقرأ تجربة الأخوين رحباني بمنظور أحد ضلعي التجربة " منصور " , إنما حقيقة وفي الجوهر أنت أمام الضلعين معاً بصورة أو بأخرى - فمن بقي أمامك الآن فيه قدرٌ من عاصي ومن رحل فيه جزء من منصو- والأن أصبحا معاً في ديار الحق . حالة نادرة من نكران الذات تجعلك لاتعرف من كتب هنا ومن قام بالتلحين هناك . وأنت ذاهب لملاقاة الأستاذ منصور رحباني في موطن إبداعه وبيته الصغير في أنطلياس ببيروت الذي اتسع وكبر ليشمل الرؤى الإنسانية بمجملها تحار حقيقة , هل تختار ناظماً لحوارك من فكر الأخوين عبر المسرحيات الشهيرة الخالدة , أم تختار التراث الغنائي بمجمله بما يحويه من ثراء وجمال , أم لعلك واقع في غرام الإسكتشات والمقاطع الإذاعية التي داعبت خيال أكثر من جيل وأسهمت في تشكيل المذاق العام للظاهرة الرحبانية أم تراك مأخوذ بالتجربة السينمائية الفريدة على قلة الأمثلة فيها " سفر برلك وبنت الحارس وبياع الخواتم " ؟ ربما يمثل هذا كله إغواء لك وأنت ذاهب لملاقاة المنصور في فنه ‘ وقد يبدو من حقك عندما تطرق باب الأستاذ منصور في نهار شتوي من شهر شباط فبرايرعام 1996 أن تتوقع أنّ من سيفتح الباب لك مرحباً بك وبفريق العمل هم " نصري ومخول وبو ديب وراجح وقرنفل وزاد الخير وملكة بترا بجلالها " وكلهم ,, كلهم من الشخصيات المحببة القريبة من قلب ووجدان الأخوين رحباني , لكن من استقبلك وفتح الباب لك هو الأستاذ منصور بذاته وهو يقول لنا بلهجته الحلوة

" أهلاً - أنا مستنيكم " وأخاله يضيف معبراً عن انتظارنا وحلاوة استقبالنا جملة رحبانية آسرة عشقتها كمتفاعل مع الظاهرة الرحبانية مذ سمعتها أول مرة ، جملة من أغنية آسرة تقول في مطلعها " بكرا أنت وجايه رح زيّن الريح " ,, ونبدأ ومن هذه النقطة الجزء الثاني من حوارنا مع الأستاذ منصور رحباني ,, & لبنان بعيون الأخوين يا أستاذ منصور , هل حقاً بدا وردياً غير واقعي يشبه جملة مغناة من أشعارك – أو أشعاركما ربما ، جملة تقول " بكرا إنتّ وجاي رح زيّن الريح ؟ .. كيف تبدت رؤاكم على امتداد التجربة , هل عينكم على لبنان كانت عيناً شاعرية أقرب الى المثالية الجمالية ؟ هناك رأي نقدي يعرفه الأستاذ منصور لاشك يقول " لقد صوّروا لنا لبنان وكأنه مدينة فاضلة - الناس فيها لايتوانى الفرد منهم عن مساعدة الآخر مثلاً - الى أي مدى تفتقد الرؤى الرحبانية الى الجذور الحقيقية , أتراها أقرب الى السراب ربما رغم عذوبتها ؟ أم أن في السؤال ظلماً . && جواب الأستاذ منصور : ماادعينا يوماً أننا صنعنا دستوراً وقلنا " هذا هو الدستور اللبناني " لبنان اللي صورناه لم يدّعي هذا أبداً " نحن رسمنا ظلالاً حلوة ، وضعنا فتاة حلوة في شبّاك ، " حطّينا " أو وضعنا وردة في السياسة ، تكلمنا عن أناس يقاومون ويموتون دون أن يفارقوا أرضهم , لعلك ترى كيف تتجسد الشخصات على أرض الواقع , قمنا ببيع المحكمة في المزاد ، أبداً لم يكن كل ماقدمناه عسلاً وسكّراً , حكينا وتكلمنا عن أشياء واقعية في لبنان وعن أشياء ممكن أن تحدث , كان فكرنا نابضاً بالنبوءة " فكّرنا على بكّير " ومن سقط في لبنان ليس فكر الرحابنة ، الذي سقط هو فكر التوافقات الذي بدأوه وأسسوا له سنة 1943 وكان مبنياً على توافقات وهمية " كومبونات " وقد هوى وسقط " أول ماسقط " في امتحان الأحداث المريرة التي عشناها في الحرب الأهلية في لبنان بدءاً من الشرارة الأولى في نيسان عام 1975 " أما الوطن الرحباني فهو وطن الشرفاء ، وطن الحق والخير والجمال ، وهو دائماً قريب من التحقيق و " إن شاء الله بيتحقق " . & - أسألك أستاذ منصور :: ونحن نسعى لبناء الوطن الأمثل – وطن الخير والحق والجمال ننشُد الإنسان الأمثل الذي يمنحنا الحكم والخلاصة الأمثل ( وعندما أتوقف عند الحكم الأمثل ) لعلي أتوقف عند الخلاصة التي أطلقها المشهد الأخير من مسرحية يعيش يعيش وشدت بها هيفاء بطلتكم الأثيرة في ذاك العمل الذي أبصر النور عام 1970 , كلمات صارخة أقرب الى الحكمة تقول " طلع المنادي ينادي مافيهاش إفادة الرعيان بوادي والقطعان بوادي " .. لافائدة .. الحاكم في واد والمحكوم في واد آخر . لو وقفت هيفاء وتم إحياء المشهد من جديد وحكت عن الحاكم والمحكوم فماذا تقول الآن ؟ && - دائما علاقة الحاكم والمحكوم شبيهة بما قالته هيفا وبما رآه وسمعه الناس في المشهد الأخير من مسرحية يعيش يعيش - وربما كانت العكس تماماً - إنما لدى الناس حكمٌ نقدي ولديهم أشياءُ تخص الحكمَ والحكام ولديهم رؤاهم فيما يخص العلاقة بالحكومة التي يرونها تشبه علاقة الأبناء بأبيهم مثلاً . بالفعل هناك شعور بالأبوّة بين الطرفين , فأنا دائماً أطلب من بيي " أبي " ماأعتبره التزاماً - إنّ لي عليه دالّة ولي حق التمني وحق اللوم - ثم إن هناك أمراً آخر : هناك المواقع التي تختلف , ينبري أحدهم من صفوف الشعب ومن بين الناس ويقول " أنا ذاهب لتحقيق أحلامكم " إنما عندما يصبح في مكان آخر يتغير لاشك, فالمكان يؤقلم الإنسان , فارق كبير بين أن أكون في الشارع أقف في العراء وتحت الشمس وبين أن أذهب لأقيم وأحيا في فيلا فخمة أو سكن فخم - نسبياً يتغير الإنسان لاشك بتغير ظروفه وشعوره والجو المحيط به – هذا كله سيؤثر حكماً ؛ وهكذا تتبدل عواطف الناس الذين خرجوامن بين صفوف الجماهير الى سدة الحكم على الأقل عندنا في لبنان كما أرى حيث أحيا , فأنا عندما أتحدث أنطلق من عالمي الذي هو لبنان .. & - أستاذ منصور : عالمك هو لبنان ولكن أرضك أوسع بكثير من لبنان - وعندما أتكلم عن العالم والأرض اسمح لي أن أتوقف عند مثال : أتشرف الآن بزيارتك في بيتك العامر في أنطلياس , عدتُ الى لقاءاتك الماضية ولمستُ تعريفاً دقيقاً بأنطلياس المؤلفة من كلمتين اثنتين " أنتي إليوس " – عاكسة الشمس – ولطالما شهدت أنطلياس علاقات اجتماعية وسياسية . ليكن سؤالي أستاذ منصور عن " القرية التي ظهرت دائماً في أعمالكم " هل هي انعكاس بصورة أو بأخرى لنبل وصفاء أنطلياس ـ هل اختصرتم القرية بمعناها المطلق بصورة مصغرة اسمها أنطلياس أم أن انطلياس توزعت بين زوايا قراكم في أعمالكم ؟ && - أنطلياس توزعت في العالم كله ـ لاشك أن أنطلياس أولاً ذهب بهاؤها , أين البساتين والحدائق " وين الجناين " ؟ كلها راحت بما في ذلك بيوت القرية وصارت مجمعات إسمنتية وتحوّل ماتراه الى قدر كبير من البشاعة : كان باستطاعتك أن تستنشق عبير زهر الليمون " شو بقي " نعم ماذا بقي ؟ أما هي كبلدة فقد كانت على مر التاريخ مسرحاً للأحداث المهمة , وظلت موطناً للقاء مانسميه بالعاميات " اجتماع العامة من أغلبية الناس . مثلاً , فعاليات كبرى شهدتها أنطلياس مابين عامي 1920 – 1940 , نحن نسمي تاريخياً حراك العاميات بحرب العامة : كانوا يأتون مثلاً الى كنيسة أثرية . كنيسة مار الياس ومن كل طوائف لبنان لأداء القسم جنباً الى جنب . إنه قسم الإتحاد في وجه أي دخيل , لقد حدثت مقاومات كثيرة عبر التاريخ . خذ ماحدث ضد المير بشير ومن خلفه ابراهيم باشا والفرنسيين . إنما كانوا أيضاً يشترون ذمم العامة وكان الشاري من العثمانيين والإنكليز – تماماً كما يحدث للأمم الصغيرة عادة . الإنسان لمّا بدّو يكتب ومهما كانت حالته ضعيفة وكي يكون الفن صادقاً والتأريخ صحيحاً يحتاج أرضاً يقف عليها , فأنا لاأستطيع أن أقول مثلاً " كان هناك فلاّخ اسمه فلان يعيش في القرية الفلانية أو في تلك الضيعة – لا – هذا غير كاف موضوعياً .لابد أن أذكر وقائع ؟ . تولستوي أو ديستويفسكي كانا يفتشان عن وقائع ثم من خلالها يتحدثان عن عامل روسي يقطن ضيعة معينة في روسيا . وأشير ألى أن كمية العواطف الموضوعة في النص هي النقطة الفيصل أو العلامة المهمة " ممكن تكون اللقطة بسيطة والواقعة المختارة محلية وتبدو محدودة لكن ممكن تصبح عالمية " لأنه من المحدود الذي انطلقت منه ستري ذاتك أمام نافذة مفتوجة تطل على اللامحدود . && اسمح لي أستاذ منصور أن أطل على أحداث الجنوب اللبناني المقاوم ومايحياه من قصف .. فيما حدود النار واللهيب تشهد حدثاً مصيرياً أخذت أبحث عن زاد فني يليق بتغطيتي البرامجية لما نحياه وإذ بي أمام عملكم الذي قدّم عام 1969 وحمل اسم " جبال الصوان " استمعت للحوار الدائر بين الفتاة غربة والغاصب القاتل – وكأنني أمام عمل لم يكتبه الأخوان رحباني منذ سبعة وعشرين عاماً وإنما من سبع دقائق " أذكر من العبارات مثلاً – رح منكمل باللي بقيو – علّم جيلنا يا أستاذ أبو مروان – كيف يصنع أثراً فنياً باقياً على امتداد أجيال ؟كيف ينطلق من المحدود الى اللامحدود ؟ . && جواب الأستاذ منصور : الفن بيبقى , يبقى على قدرمايزخر به أو يحمله من مشاعر الصدق والإخلاص ولاشك ببقائه واستمراره طالما كان الفن كبيراً حقاً وإذا كانت الطاقة الشعورية عالية وكان الإحساس بالمأساة عظيماً وطاغياً . يوم كتبنا – عاصي ومنصور مسرحية جبال الصوان كان لدينا إحساس بأن شيئاً مأسوياً كبيراً يحدث وأن أمراً حزيناً تدور فصوله أمامنا لذلك جاءت بهذا الشكل الذي تراه – انظر الى هذه الكلمات مثلاً – " غمر الطوفان الأرض ورجعوها يلي بقيوا .. كتار قلال ىح نكمّل باللي بقيوا .. صوت معاولكم خزّق سمعهم فقرروا يبيدوكم ويقوموا بقصفكم .. مش معقول , ألا يقال عادة " الضربة التي لاتقصم ظهرك تقويه " نحن بلبنان بعد كل ضربة نزداد قوة لذلك ترى " مسرحية جبال الصوان مستمرة في أحاسيس الناس ومشاعرهم . تأمل معي هذه الكلمات تحديداً " أولاد مدلج عم يخلقوا تحت كل شجرة وتحت كل بيت .. شوعاد بدك تقتل لتقتل لمّا بيقع الظلم بتضيق الأرض . هذه الكلمات تحديداً شكلّت تأثيراً كبيراً عند اللبنانيين وخلال لهيب النار والقتال الذي دار رأينا الإذاعات كافة تبث مقاطع من مسرحية جبال الصوّان . إنه إصرار الناس على البقاء ونحن – الأخوين رحباني – جرء من هذا الشعب فنحن لم نجيء من اسكوتلاندا أو اسكندينافيا " نحن أولاد هذا الشعب .. أبناء حزنه وفرحه وأولاد طموحه الى الحرية والبقاء لذلك طلعت معنا بدنا نكمّل باللي بقيوا .. ** ومع نهاية الجزء الثاني من اللقاء مع الفنان القدير الراحل منصور رحباني نختار جزءاً مهماً من الحوارات التي أثرت وجدان الملايين ممن تابعوا المسرحية الخالدة " جبال الصوان " ولتكن من نص الحوار الذي يدور بين الغاصب القاتل " الذي أدى دوره باقتدار الفنان أنطوان كرباج " وبين الفتاة غربة وهي من أبناء الشهيد مدلج " والتي أدت دورها بألق نادر السيدة القديرة فيروز . - الغاصب يخاطب غربة : بعرض عليك الرحيل لاتجعلي الناس حولك خبز الأرض ويرجع شجركم يزهّر الطرحات السود .. - غربة : فتحوا شبابيكم – شمسهم ماعادت تغيب * أنا اللي بعروض عليك تروح * - الغاصب : أنا جيت مش لروح , الأرض أنا وهني سايعتنا . - وليش قتلت مدلج ؟ - أنا ومدلج ماكانت الأرض سايعتنا - غربة : الأرض ملك الكل بس مابتتسع للناس والظلم , لمّا بيقع الظلم بتضيق الأرض .. ابكي ياريح ع أهل جبال الصوان .. "من نصوص مسرحية جبال الصوان 1969 " • تم تصوير المقابلة في منزل الأستاذ منصور رحباني بأنطلياس شتاء 1996 لصالح التلفزيون العربي السوري برنامج وجهة نظر إخراج المهندس أسامة خليفاوي .. الى اللقاء على صفحات دورية أيام كندية في الجزء الثالث من الحوار .. بقلم وتقديم و حوار " مروان صواف "..

مواضيع ذات صلة