خواطر عن الصديق الجميل Google بقلم الإعلامي الأستاذ مروان صواف

خواطر عن الصديق الجميل Google "وفي انتظار وصول الإبن الضال " العقل "

بقلم الإعلامي الأستاذ مروان صواف

تحت اسم منطق التأويل وفي كتاب بعنوان " الثقافة التلفزيونية ، سقوط النخبة وبروز الشعبي " يروي الدكتور عبد الله الغذامي قصة من قصص الهنود الحمر .. نحن هنا أمام مسافر هندي أحمر على متن طائرة ذاهبة إلى إحدى المدن الأمريكية الكبرى وقد ذاب إثر وصوله و في زحمة القادمين ولم يعد يُرى بعد إجراءات القدوم ، الى أن شاهده رجال شرطة المطار في صالة استلام الأمتعة ، وبعد يومين ، جالساً بلا حراك وغافياً ربما ، وعندما سألوه عن سبب بقائه جالساً هكذا دون أن يستلم حقائبه قال : لقد وصل جسمي بسرعة ولكن روحي لم تصل بعد ، وفي رمزية الواقعة يستشف مؤلف الكتاب معنى عميقاً من معاني التكنولوجيا الحديثة " حيث تتحرك الماديات بسرعة مذهلة بينما لاتصل الذهنيات الى سرعة مماثلة " ,,  ما تعنيه حكمة الهندي الأحمر بالنسبة لنا لايخرج كثيراً عن هذا السياق مع بعض الإختلاف لاشك ، إنما في المجمل ، تكاد محاكمتنا الذهنية تتوارى خلف حركة أصابعنا على اللاب توب وأزرار الآيفون كمثال ، وتبدو المسافة كبيرةً جداً في كثيرٍ من الأحيان بين قيمة التقنيات التي ننعم بها وبين أدائنا فيما نكتب وننشر ونستعير " كي لا أقول نتبنى مقاطع ليست لنا " ؟ يرى المرء هذا جلياً بإجراء حسبة بسيطة في كيفية تعاملنا مع هذه الهبة العلمية الفريدة , فبصورة عامة يستطيع المرء بسهولة أن يتأمل الفارق بين زمنين : ماكنا عليه قبل بروز وسائط التواصل الإجتماعي ثم ما آل اليه الحال بعد حدوث هذه النقلة النوعية في ثورة الإتصال ،، ويمكن تصنيف الفارق في بعض الأمثلة وفق ما يرى كلٌ منا ::

- الفارقُ الأول فارقٌ اجتماعي عائلي يتبدى باختلاف مرجعية المعلومة بين جيل الآباء والأبناء ، بالأمس مثلاً كان الأبوان هما المرجع الذي يستعين به الإبناء ,, اليوم ، ومع براعة الأجيال الجديدة قياساً لمستوى الإلمام التقني عند الأهل ، أصبح عقل الأبناء ومستوى الدراية لديهم هما المرجع المعلوماتي بغض النظر عن القيمة التربوية الإجتماعية ، ألسنا نسأل أبناءنا " بل الأحفاد الصغار أحياناً ودون خجل أو تردد عن حلّ لمعضلة نواجهها على الكومبيوتر مثلاً ؟ ,, والسنا نحس بالحرج أكثر عندما يقول أحد الأبناء لنا – وبكل صراحة – " بابا ، أنت تسألني عن أمر يتغير بين سؤالك بالأمس واستفسارك اليوم ، حتى أنا وجيلي تجاوَزَنا الزمن وبصدق يا أبي جرّاء سرعة تطور تقنية إيراد المعلومة وبشكل مذهل ,,

- الأمر النوعي أو الفارق الثاني - وهو على قدر من الأهمية كبير - " مستوى الدقة والأمانة في النقل والنشر والفارق بين الإبداع الذاتي والنقل عن الغير " ، فرغم قراءاتنا الغزيرة نسبياً كماً ونوعاً وعلى مستوى العلوم والفنون والآداب وعلى امتداد عقود من الزمن " لا أذكر أنني مررت ولو مرة واحدة بكلمة " منقول " دون تحديد المصدر والزمن وهوية الكاتب :

منقول ممن ومن أين ومتى ؟ ,, فكلمة منقول المتداولة " بكرم حاتمي " في أيامنا على صفحات الفيسبوك ومنصات التواصل الإجتماعي مثلاً لا تعني الأمانة كما يتوّهم الناقل ، لابد من تحديد المصدر وهوية الناشر الذي نقلتَ عنه ، ، وأذكر أن بعض الموسسات والمجلات المختصة تخاطبك في شروطها قبل نشرها لمادتك وتدعوك الى ذكر مصادرِك التي عدتَ اليها ، ليس في هوامش البحث فقط وإنما في المتن أيضاً , ولن يبتعد المرء عن جانب الأمانة والصدق في الوثيقة شبه المعتمدة عندما يلتفت الى مايحدث أحياناً في عالم " الفوتوشوب " أو في علم وفن التذويق والتعامل مع الصورة المتاحة بين أيدينا , بل حتى مع ترميم وتلوين وثيقة يفترض أن تكون أصلية ، وهذا أمر يحتاج وقفة بحد ذاته وهو يذكرّني الى حد بسؤال عن طبيعة فهمنا لعمليات المونتاج في برامجنا التلفزيونية وكيف أن هناك من يعتبره في بعض الأحيان حالة من حالات الكذب والخداع ، وضرورة أن لايؤثر المونتاج على فحوى وصدق المادة التي تتوفر بين يديك كصانع ومعد ومقدّم لبرنامج تلفزيوني حتى لو كان حوارياً ,,

- المسألة الثالثة تتصل بالصديق "Google " الذي لايبدو دائماً على حق " كقاموس عصري لايجارى " ,, أحقاً لايجارى ؟ وهل هذا الكلام ُدقيق دائماً ؟ ، فرغم أن غوغل يشير علمياً وأحياناً الى أن هذه المعلومة أو تلك غير معتمدة وأنها تحتاج الى إسناد و تدقيق وتمحيص فإن ذلك لايكفي ، فالإنطباع الذي يخلّفه لدى المستفيد من الخدمة كمصدر هو الدّقة والمرجعية الأمينة بلا جدال ، وهنا الخطورة والحساسية ، والمسألة هنا قريبة مثلاً - والى حد ما - مما يبثه ويظهره غوغل من وثائق مكتوبة ومرئية كالموسوعات السياسية الفيلمية ، أو أي عنوان قريب من هذا , حلقات يبدو من اسمها أنك قادر على التسليم بموضوعيتها واعتمادها كمرجع لبحثك ثم لاتلبث مع الأسف أن تكتشف أنك واهمٌ بنسبة ملفتة سيّما إذا كنتَ من معاصري وشهود الأحداث التي تتناولها هذه الحلقة أو تلك فتاريخ أحداث الستينيات في الوطن العربي على سبيل الذكر تاريخٌ قريب بمنطق علم الأرشفة والفهرسة ، والوقائع متاحة نسبياً، وعندما تكون الوقائعُ المتاحة حارةً فما من داعٍ للخيال ,,

- المشكلة الرابعة تنامت بالتزامن مع الزلزال الذي عصف بوطننا العربي مذ أحرقت ألأفئدةَ نيرانُ " البوعزيزي الشهيد " وما تم اعتماده باسم ثورة الياسمين في تونس " وفق الوصف المتداول " إيذانا بحلول تسمية أخرى هي الربيع العربي , حيث يتبدّى ذاك المشهد الصحفي الميداني لمتظاهر حمل الكاميرا وأخذ يلتقط ما تراه عيناه ، فبدا المشهد فائق النبل إنسانياً لاشك ، مشهد جذعٌ أو كتفٌ مدّمى وعلى الكتف الآخر كاميرا تصوّر وتوثّق ما تراه يغض النظر عن قيمة المادة علمياً ووثائقياً " ، ورغم إنسانية وشفافية الحالة فلا يمكن التسليم بأننا أمام مادة وثائقية معتمدة سيّما عندما تطوّر المشهد الى ظاهرة المواطن الصحفي " بمعنى أن لكلٍ صحافتُه وموقعه وقناته التي يبث منها ما يريد على اليوتيوب " ، وكما أن في باطن كل ظاهرة نبيلة مساوئ أحياناً ، فقد أدت حرية التناول والرصد الى تدني المستوى والقيمة فيما ننشر والى حدود العبث غير المقبول في كثير من الأحيان ,,

- والغريب أنه مع اتساع وارتقاء مهنة الإعلام " كفن وعلم " ومع افتتاح كليات الإعلام وإقبال الطلبة حاملي الشهادة الثانوية على دراسة الإعلام والصحافة أكاديمياً ، انخفض الأداء الإعلامي جودة وقيمة على غير المتوقع شكلا وموضوعاً ,, انخفض مثلا في إدراك الجانب الأخلاقي والقانوني للمهنة ، تراجع وبشكل ملحوظ في مستوى حرفية ومهنبة الأداء ، وفي المستوى المخجل للغة الكاتب الصحفي " والمامه البدهي " بلغته العربية الأم فيكتب كلمة " أستاذ " على أنه " أستاز " مثلا أو كلمة شاءت على أنها " شائة " ، وقد أصبت بالذهول وأنا أقرأ إعلاناً صادراً عن هيئة عامة عريقة للكتاب – وهي مؤسسة كانت صرحاً ثقافياً مشهوداً به في فترة الستينيات التي لايعرف جيل الأبناء كم تطورت حركة النشر وديمقرطية النشر فيها " ؟

,, كان الإعلان يتحدث عن الأخطاء اللغوية الشائعة في الأوساط الثقافية وفي حركة الإبداع والنشر ، وإذ بالإعلان ذاته يشكو من سلامة اللغة ومن وقوعه في فخ الركاكة لغةً وصياغةً وبشكل ملفت ، وتقتضي الأمانة أن أشير هنا الى بحث للكاتب العربي السوري الأستاذ إسلام أبو شكير الذي لفت الأنظار أساساً الى هذا الجانب بقوله " إننا نواجه حرباً تلتهم الذاكرة والتاريخ العربي ",, هل يشير المرء هنا الى الأسلوب الحضاري الذي اتبعته الأوساط الرسمية الثقافية في كندا مثلاً احتفالاً باليوم العالمي للغة العربية والذي أقيم في مونتريال ؟ .. - لا أريد أن أقع في فخ الإسهاب أكثر ,, فالحديث مغرٍ وجاذب ,, ولكن قلبي مع ذاك الغافي على مقعده في المطار دون أن يأخذ حقائبه " لأن جسمه " داهم عقله بالوصول المبكّر فجلسَ ينتظرُ ذاك الإبن الضال " العقل " ,, مروان صواف ، سان لوران - مونتريال – مساء الثالث والعشرين من حزيران يونيو 2019 ,,

مواضيع ذات صلة