العلم بين الخصومة والخصوبة بقلم الإعلامي الشهير أ. مروان صواف

العلم بين الخصومة والخصوبة

بقلم الإعلامي الشهير أ. مروان صواف

رحلة أبولو 11 وحكاية آرمسترونغ " ورحلة المركبة " محظوط " الى المحطة الدولية ،، العقل العربي بين الغواية والرواية العلمية ؟ هل نحن ظاهرة صوتية كما يقال أحياناً ، أم أن في القول تجنياً وبعداً عن العلمية ، أترانا ذاكرة قرائية سردية أقرب الى الشاعرية عموماً ولا تميل الى الواقعية العلمية " والشعر جميلً وساحر لاشك والشاعر يهيم برؤية وجه الحبيبة على خد القمر مثلاً ، ولكنه لا يسمح ، بل يؤلمه الإعتراف والإقرار بأن نيل آرمسترونغ وطأ خدّ الحبيبة بين العشية والفجر يوم حطت مركبةُ أبولو 11 على سطح القمر في الحادي والعشرين من تموز يوليو عام 1969 ، أيعقل أن هناك من لايصّدق في يومنا هذا وفي الذكرى الخمسين لهذه الخطوة الإنسانية الفريدة أن آرمسترونغ وزميله هبطا على سطح الكوكب البديع فعلاً ؟ .

غالباً مايهيم العقل العربي بعبارة ترافق المؤتمرات السياسية " كانت الرحلة موفقة " ، وأكاد لا أصدّق أن هناك محطات بث عربية قالت أمس عن رحلة الإنسان الى القمر في ذكراها عبارة أخرى " كانت الرحلة ملفقة " .. بل كانت كذبة وخدعة وخرافة ؟.. لفتني هذا بصدق وأنا أتابع التقارير العلمية التي أخذت تبثها قناة فرنسا 24 الناطقة باللغة العربية مثلاً عن طاقم الرحلة " محظوظ " المؤلف من ثلاثة رواد فضاء من الولايات المتحدة وروسيا وإيطاليا انطلقوا نحو محطة الفضاء الدولية تزامناً مع الذكرى الخمسين لهبوط أول إنسان على سطح القمر ، الرواد الثلاثة التقوا زملاء سبقوهم الى المحطة ذاتها بهدف إجراء أبحاث علمية " مايقارب مائتين وخمسين بحثاً علمياً " في مجالات بيولوجية وفي العلوم الفيزيائية وفي تطوير التكنولوجيا وفي أبحاث طبية قد تساعد في علاج أمراض كثيرة منهاعلاج وشفاء المصابين بمرض الشلل الإرتعاشي " باركنسون "

.. يحلو للكثيرين أن يطرحوا سؤالاً عن علاقة الإنسان العربي بالعلم ، وهل تتسم بالخصوبة على المستوى الإنساني ككل أم تتسم بالخصومة " , لاشك أن تألق علماء عرب على المستوى الإنساني ككل يكاد ينسف السؤال من أساسه " كالدكتور العالم أحمد زويل مثلاً الذي نال شهادة الدكتوراة في علوم الليزر وحاز نوبل لإبتكاراته في مجال " الفيميتو " وهي أصغر وحدة زمنية ، وكعالمة الفلك والفيزياء السورية شادية حبّال " سورية الأصل أميريكية الجنسية " وكمايكل عطية عالم الرياضيات اللبناني مثلاً والدكتور فاروق الباز " وكالة ناسا للفضاء " وغيرهم ممن لايحظون بالمتابعة الإعلامية العربية الكافية أو بالسجل العلمي في مؤسسات العلوم والأبحاث العالمية أحياناً على حد سواء ؟ ولاشك أن لدينا هياماً بالحديث عن دورنا في الماضي ذهاباً عميقاً في الجذور، كأن نقول : إننا لو أردنا الذهاب عمقاً في التاريخ وعلى المستوى الإنساني ، لرأينا الدلائل صارخة على الأثر العربي في تقدّم العلوم الإنسانية بمختلف الميادين ، ولكن المرء لايود الوقوع في فخ شهير لطالما استسلم له إنساننا الهارب هذه الأيام من تحديات العصر بالذهاب الى الأمس والتمسك بالقول المعروف " كنّا ، وفعلنا ، ونحن من اكتشف ، والينا يعود الفضل في إنجاز هذا وابتكار ذاك ؟

.. أريد الذهاب - وبواقعية شديدة ما أمكن - الى الذاكرة القريبة منطلقاً من واقع ذاتي صرف يتصل بمهنة الإعلام ، بين الدراسةً والممارسة ، وبين الإغراء وسطوة المهنة واقعياً وعلاقتهما بالعلم وضعياً ,, كنا خمساً وخمسين طالبة وطالباً يسعون عام ألف وتسعمائة وثلاثة وسبعين " قبيل بدء حرب السادس من تشرين أول أكتوبر في ذاك الخريف الملتهب " يسعون لنيل الإجازة العامة في الآداب قسم الصحافة " ، وقد اختار الأستاذ الدكتور المشرف في القسم – وكان من خريجي الصحافة في جامعة القاهرة " الدكتور أديب خضور أدام الله عمره – أن يستضيف رموزاً وأساتذة من مختلف الإختصاصات كي نلتقي بهم كهادٍ ودليل لنا في أيامنا الأخيرة في الكلية قبل نيل شهادتنا والإنطلاق الى الحياة العملية ، قائلاً " لن نكتفي بالقول : لقد تخرجنا من قسم الصحافة ونلنا الإجازة العامة في الآداب – هكذا بصورة عامة - فهذا أمر لايجوز في عصرنا وغير عملي وغير كاف ، لابد من تحديد الهدف والمنهج وقد خرجتم لتواجهوا الحياة العملية ، سنلتقي أساتذة ورموزاً على مدار الأسبوع الأخير من أيام الدوام وسيدور الحديث مع كل زائر عن اختصاصه ، سنبدأ مثلاً بلقاء الكاتب المسرحي الأستاذ سعد الله ونوس ليقارب حلم عاشقي الأدب المسرحي منكم " فناً تمثيلياً وترحالاً مع أب الفنون " المسرح " وتحليلاً لفن الفرجة من منطلق صحفي ، والأستاذ سعد الله خريج صحافة مثلكم ،،

ثم نلتقي بالمخرج السينمائي العربي المقيم في سورية تلك الأيام الأستاذ توفيق صالح صاحب فيلم المخدوعون المستقى من رواية للأديب الفلسطيني الراحل غسان كنفاني ، وليسعد عشّاق الصحافة الرياضية أيضاً ، فهناك من سيلقاهم ، وليستعد المهتمون منكم بفن التصوير الصحفي لملاقاة أستاذ خبير ، وسيكون عشّاق فن المونتاج مع الأستاذة أنطوانيت عازرية وهكذا الحال مع الصحافة الفنية المتصلة بالذائقة الموسيقية ،، وتعددت الإختصاصات وتوالت اللقاءات ثم واجهَنا كطلبة سؤالاً من الأستاذ المشرف " والان – للحياة العملية مسار آخر ربما – ولكن من حيث المبدأ هل بإمكاني أن اعرف الامَ يتطلع كل طالب منكم ؟ ,, ورحنا في نشوة بالغة نتحدث عن أحلامنا وأمانينا فهناك من قال " إنني من عشاق فن التعليق والتحليل الرياضي ومن محبي الأستاذ الراحل عدنان بوظو " ، وهناك من قال " إن عرض الأستاذ المخرج توفيق صالح سحره تماماً وهو ذاهب الى الصحافة السينمائية إن صح الوصف "، وثمة من رأى في صحافة الخبر وصناعة التقرير الصحفي وكتابة التحليل السياسي بيته وعالمه واختصاصه ، بينما أعلن زميل بجانبه أنه ميّال لصحافة عالم المال والصحافة الإقتصادية التي يرى فيها نبض العصر ,, وأتذكر الآن ، وبقدر من الشفافية والمصداقية ، أن أحداً منا لم يقل " إنني أهوى الصحافة الطبية أو الصفحة العلمية بمجالاتهما الرحبة " ؟..

توقظ هذه الواقعة الهاربة من سجل الأمس أحلامي وأنا ذاهب لملاقاة هذا الفيض من التغطيات الإخبارية التي تواكب مثلاً خبراً علمياً إنسانياً إجتماعياً يحدّثك منذ ساعات عن حفظ البيانات الرقمية في الحمض النووي ، بمعنى أن جيناتنا تخزّن بيانات – ودون إرادة منا – عن كل مانقوم به من عمل إبداعي أو ربما حلمنا بالقيام به ولم يتحقق " ، عن الرواية المتخيلة إن كنّا كتّاباً ، وعما ننجزه من مقالات ومانقدّمه للقراء لو كنا أعلاميين " ، عن أحلامنا ورؤانا لو كان المرء عاملاً في الحقل الطبي أو العلمي بوجه عام وعن جراحاته الخطيرة لو كان طبيباَ جرّاحاً ، وعن لوحاته وتماثيله الساحرة لو كان رسّاماً او نحّاتاً، وعن مشاريعه العائلية ورؤاه يوم كان طالباً بين الواقع والحلم الذي لم ير النور ، مسألة أقرب لل " CV " كما نسميها في حياتنا الوظيفية أو السيرة الذاتية المرئية عبر الأتمتة بواسطة جهاز متصل بالحاسوب ،، لنسلّم جدلاً بأن الصحافة الطبية – بل العلمية عموماً – تخطت أحلامنا واختياراتنا يوم كنّا طلاب صحافة في كلية الآداب نحلم بلحظة التخرج والخروج الى الحياة العملية ، إنما ألا توحي التقارير العلمية التي تتوالى كل صباح عبر شبكات البث بأنها في المقدمة تماماً ؟

.. ومن منا لايرى ذاك العناق والإلتحام ربما ما بين الصحافة العلمية ومحريات الحياة بما فيها من نتاج إبداعي ثقافي وفني ؟ بأمانة ، ليست هذه هي المرة الأولى التي يتجلى فيها هذا العناق العلمي الفني أمامي ،، فالذاكرة بسحرها وألقها – ولا يعرف المرء كم يدوم شبابها ومتى تبدأ بالذبول – هذه الذاكرة بسحرها تضعني أمام حلقة تلفزيونية جميلة من برنامج تلفزيوني تشرّفت بوضع فكرته وإعداده وتقديمه ذات يوم وحمل اسم رؤيا " Vision " ، يوم تتالت مشاهد فيلم سينمائي يحمل عنوان " العودة الطويلة " The Long Return " ويبدأ برواية قصة - قد تبدو مألوفة للوهلة الأولى - عن شاب هام عشقاً بمحبوبتة الشابة الجميلة وبارك الزواج سعي العاشقين ، ولكن حياتهما سارت باتجاه ثان تماماً عندما أصيبت الشابة بمرض عضال ، وكادت القصة تنتهي النهاية التقليدية العادية لولا تعلق العروسين بأمل جارف بدا كالحلم المستحيل تماماً ، وهو انتظار دواء شاف تنبئ الأبحاث بوجوده ولكنه بعيد المنال حاضراً فيما أيام الفتاة معدودة ، وهنا يكشف العلم عن وجهه الجميل والخطير معلناً عن إمكانية تجميد جسد الفتاة وهي على قيد الحياة والدخول في سبات طويل أو بيات ريثما يظهر العقار الجديد لتصحو الفتاة المجمّدة من جديد ,,

اربعون عاماً كاملة قضاها الزوج ديفيد وقضاها معه كادر طبي متبدّل بالبداهة في انتظار الفتح القادم ، فقد توفي الطبيب المشرف وتغيّر فريقه بالكامل تقريباً ، ثم ،، بزغ فجر الأمل باعتماد العقار الجديد ، وبدأ إيقاظ الفتاة من سباتها ، وأخذت الدماء تسري في عروقها وألجسد آخذ بالتحرر التدريجي من عملية التجميد القصوى طبياً .. وأفاقت الفتاة تماماً وكأنها نامت بالأمس فقط ، لتسأل بعد زمن قصير " أين حبيبي ,, أين ديفيد زوجي .." فيما الزوج غارق في كهولته يذرف الدموع ناظراً اليها ، وينتهي الفيلم برحيل الزوج المحب وقد حنت عليه الزوجة الشابة للثانية الأخيرة ,, وعندما تسألها الصحافة بعد رحيله ,, وماذا بعد ,, الى أين تذهبين الآن ،

يأتي الجواب ,, فقط للعيش ,, لاشيء إلا العيش .. للرواية نهاية فيما يبدو في فيلمنا المختار " العودة الطويلة " الذي أدهش مشاهدينا وأبكاهم في برنامجنا " رؤيا – Vision " أنذاك ، وقد مضت سنوات بعيدة على بث الحلقة ،لكني لا أعرف بصدق مدى اهتمام المشاهدين لو قدّمنا لهم الأخبار المتتالية الآن عن خدمة جديدة يقدمها عدد قليل من المراكز الصحية في الولايات المتحدة وروسيا وهي خدمة حفظ الجسد البشري بالتبريد العميق في انتظار عقار شافٍ ما ، أو لو حدّثناهم عن فتاة شابة كانت تحيا مع والدتها في العاصمة البريطانية لندن ، تعاني من الحصار الضاري لنوع نادر من سرطان الدماغ ، وقد تقدمت للمحكمة تطالب بمنح والدتها الحق في اتخاذ أي قرار يخص جثمانها بعد وفاتها الحتمية طبياً ، وبالبداهة استثمرت قنوات ووسائل إعلام محلية رسائل الفتاة التي قالت فيها " سأخضع للتجميد فأنا أحب الحياة والعيش سنوات أكثر ، إن لديّ أملاً باكتشاف عقار يمكّن العلماء في المستقبل من بث روح الحياة في جثماني مجدداً " ، يثار حول المسألة ، أوهذه الخدمة جدلٌ علمي وإنساني واجتماعي كبير حالياً لاشك ، ربما يذكّرك بالجدل المثار حول الخلايا الجذعية بالأمس وعن حقيقة الإستنساخ المرعبة التي أسهم الإعلام والفن في تكوين ردود الأفعال الناجمة عنها ثم بالحد العلمي الفاصل والبات في إيقافها انطلاقاُ من الحديث عن النعجة دولي بداية الى آخر تجارب الإستنساخ البشري قبل الأمر العلمي والقانوني بإيقافه ..

أريد التوقف كثيراً عند التحديات العلمية وموقفنا من العلم والتقدم الصارخ بين الخصومة والخصوبة ولكن قلبي عند ذلك الشاعر العاشق الذي رفض رواية هبوط آرمسترونغ على سطح القمر خوفاً من أن تمس أقدامه وجه الحبيبة الذي طالما رآه على خد القمر ؟ وعقلي يقف حائراً أمام تبني منابر إعلامية أمس الأول لنظرية الخديعة والإحتيال في الحكم على الفتح العلمي بهبوط أول إنسان على سطح القمر والقول " لا ,, أبداً الرحلة لم تتم وما شهدناه وتابعناه ليس إلا حيلة بصرية أعمت العقول " ؟ .. وقلبي وعقلي معاً عند أولئك الطلبة الذين جلسوا يحلمون بالغد بين غواية الفن وسحر العلم وكنت منهم ,,,,

مروان صواف ل.. أيام كندية- فجر الثالث والعشرين من تموز يوليو – سان لوران ، مونتريال ، كندا ,,,

على المستوى الشخصي تخطتها أكثر من مرة " مرة في خوض غمار ألصحافة الحربية وأنا أجد ذاتي على حدود النار في القطاع الأوسط من الجولان إبان خريف الغضب على امتداد خريف عام ثلاثة وسبعين بعد التخرج مباشرة سنة ثلاثة وسبعين وامتداداً لشتاء عام أربعة وسبعين ، ثم مرة أخرى وأنا اخوض غمار عالم الصحافة الثقافية والمتنوعه الساحر سواء في الصحافة المكتوبة أو الصحافة المرئية " برامج التلفزيون " وعلى امتداد سنوات العمر ,,

مواضيع ذات صلة