خُطبة الجمعة.. وجدار الصمت!! بقلم معتز أبوكلام

خُطبة الجمعة.. وجدار الصمت!! بقلم معتز أبوكلام

بمجرد حسبة بسيطة، سيكتشف المرء أن عدد خطب الجمعة التي أُلقيت منذ بزوغ فجر الإسلام إلى عصرنا هذا قد بلغت وسطياً "مائة وخمسون مليار" خطبة وصلاة جمعة، تخيلوا هذا الرقم المهول من اللقاءات والخطب، اللهم زد وبارك وأنعم.

لا شك أن الموضوع الذي سأتناوله الآن هو من المواضيع الشائكة والحساسة والتي كالعادة سينبري لها جهابذة القوم المدافعين الأشاوس، حراس موروث الأمة، الذين شغلهم الشاغل هو فقط منع إقتراب أي فكر أو فكرة حتى لو كانت بناءةً وحتى لو كان صاحبها حسن النوايا. السيدات والسادة الأكارم، مقالتي هذه ستتمحور حول هيكلية خطبة الجمعة والتي ماتزال مستمرة على وضعها المتعارف عليه منذ 1440 سنة من الزمان. لا شك أن لخطبة الجمعة مكانة إعتبارية مقدسة في الدين الإسلامي وقد تربينا ونشأنا جيلاً بعد جيل على هذه القيمة الإيمانية، ولكن هل حقاً لعبت خطبة الجمعة دورها المنوط بها!! لن أتطرق هنا لمواضيع الخطب التي اُستهلكت للغاية مع مرور قرون الزمان ولا للخطب الجاهزة والمعلبة أو الموجهة من قبل تيارات وطوائف وأحزاب دينية أو سياسية، كل هذا يحتاج لمقالات وأبحاث عديدة مفصلة.

ما يستحق أن نمعن النظر فيه الآن، هو السؤال التالي: لماذا حُكم علينا في خطب الجمعة أن نصوم عن الكلام ولا ننبس ببنت شفة مادام الخطيب يخطب على المنبر؟؟ لماذا فُرض علينا أن نكون بُكماً مستمعين لا متفاعلين ثم نقوم إلى صلاتنا صامتين؟؟ ألم يخطر ببالنا، لما فُرضت علينا هذه الحالة السرمدية من السكوت الممنوع حتى من الهمس، ونحن نرقب الخطيب كل جمعة بعيون متثاقلة وبطون مقرقرعة وظهور مقوسة وعقول مخدرة وأمامنا دوماً نفس المشهد ونفس الرجل، يخرج علينا بعبائته ليبدأ مبارزةً خطابيةً أسبوعيةً جديدةً مرصوفة الكلمات وصوت جهوري ومكبرات صوت تُسمع سكان المدن والقرى المجاورة، ثم إذا ما انتهى ألقى دعائه على الملئ ثم يأذن للناس أن قوموا إلى صلاتكم خاشعين. للأسف هذا هو حال خطبة جمعتنا، ولا ألوم خطبائنا فهم أيضاً نشأوا على هذا النهج كما نشأ من سبقهم من الخطباء وهم مجرد عاملون يتلقون أجرهم في نهاية كل شهر كأي عامل آخر).

سأحاول أن لا أتشعب كثيراً رغم كثرة النقاط التي تستحق أن نقف عندها ونفصلها. الأخوة والأخوات الكرام، لو مر على سمع أحدهم أن ثمة أمة من الأمم واظب أفرادها على حضور مائة وخمسون مليار من الخطب على مدى أكثر من أربعة عشر قرناً من الزمان، لجَزم بأن هذه الأمة لا شك هي رائدة الأمم بالمعرفة والأخلاق والفكر والعلوم والإبتكارات في العصر القديم والحديث ولكن للأسف وللأسف الشديد واقع الحال ليس كما يرام بل هو تشرذمٌ وإنقاسمٌ وتقاتلٌ وتخلفٌ وضعفٌ وأميةٌ فكريةٌ وتصحرٌ أخلاقيٌ وغلوٌ في الدين. هل يجوز هذا يا سادة يا كرام؟؟ أين ضاعت.. ولماذا ضاعت تلك الجرعات الإسبوعية من الخطب الرنانة على المنابر العالية المقام؟؟

..لطالما حدثت نفسي بحلول إصلاحية نستثمر توافد تلك الحشود البشرية الغفيرة في المساجد كل جمعة لنرتقي بالخطب ونصلح حالها ونضعها على المسار الصحيح، لطالما فكرت بضرورة أن نحول الخطب إلى ورشات عمل تفاعلية حقيقية تتاح فيها الفرص لإستعراض مشاكل وطموحات ورغبات أهل كل حي بشكل منظم، جمعة بعد جمعة وهذا لا يمكن أن يتحقق مالم نكسر بعض القواعد والقيود التي توارثناها أجيالاً بعد أجيال رغم أنه لم ينزل بها وحي ولم تُذكر في كتاب.

ومن هنا أيها السيدات والسادة، أغتنم هذه الفرصة لأخاطبكم جميعاً، بل لأخاطب كل الجهات المعنية وعلى رأسها منظمة المؤتمر الإسلامي ورابطة العالم الإسلامي والأزهر الشريف ووزارات الأوقاف في الدول الإسلامية الذين أحسبهم جميعاً يغارون على مصلحة هذه الأمة ومستقبلها وأدعوهم للنظر في التوصيات الصادرة من العبد الفقير:

التوصية الأولى: تغيير النمط السائد لخطبة الجمعة بحيث لا تقتصر الخطابة على علوم وعلماء الدين فحسب بل يُفسح المجال أمام باقي أفراد المجتمع من مفكرين وباحثين في مختلف التخصصات، ومصلحين إجتماعيين ومرشدين نفسيين وأكاديميين وأطباء ومحامين ممن يُشهد لهم برجاحة العقل والفكر والدين، ليشارك الجميع في بناء المجتمع البناء السليم المتكامل وتحصينه من الضياع والتخلف والغلو، بل سأذهب لأبعد من ذلك، لأطالب بأن يُستحدث لجنة تتألف من ثلاثة محاضرين أكفاء أتقياء بدلاً من الخطيب الواحد التقليدي، بحيث تضم هذه اللجنة عدد من التخصاصات المتبدلة كل فترة حسب الضرورة. فعلى سبيل المثال، بالإضافة إلى خطيب الجمعة، يمكن أن يشارك في الخطبة أيضاً مستشاراً تربوياً أو نفسياً أو طبيباً إستشارياً أو محامياً من الموثوقين وهكذا كل أسبوع ليستمعوا إلى قضايا العامة ويقدموا إستشاراتهم ويتشاوروا في أمور حياة الناس في دينهم ودنياهم على مبدأ "وأمرهم شورى بينهم" فإذا لم نتشاور في لقائنا الأسبوعي هذا، فمتى وأين سيكون التشاور! (والقصد هنا ليس عقد جلسة إرشادية بعد صلاة الجمعة، كلا، بل المقصود هو خطبة الجمعة بعينها، ثم إذا ما انتهت الخطبة الأولى التفاعلية التشاورية، يتولى الخطيب التقليدي زمام الخطبة القصيرة الثانية ثم يُرفع الآذان بعدها لصلاة الجمعة كما هي العادة). ولكل من استغرب أو استهجن هذه الرؤيا أذكره بأن هناك في الجامع الأموي الكبير في دمشق يُرفع الآذان بصوت جماعي لجوقة رائعة من المؤذنين يتشاركون في الآذان الواحد وفي هذا تعظيمٌ وإجلالٌ من أهل الشام لمكانة الآذان وأرى أن من الواجب أن نؤديهما لخطبة الجمعة على حد سواء، إذ لا تقل مقاماً وإجلالاً عن شعيرة الآذان.

التوصية الثانية: تفعيلاً للتوصية الأولى، ينبغي تغيير النمط السائد لشكل خطبة الجمعة بحيث لا ينحصر دور الجمهور فقط على الإصغاء الصامت اللاتفاعلي والممنوع من الكلام، بل كسر جدار الصمت والحث على المشاركة وطرح الأسئلة والمناقشة وإبداء الرأي لمن يجد حاجة لذلك بشكل منظم وبإشراف خطيب الجمعة. فمن خلال تجربتي المتواضعة بصفتي أكاديمي وصاحب مؤسسة تعليمية، لطالما وجدت أن الدرس الذي لا يشارك فيه الطالب ولا يسأل ولا يتفاعل، يُعتبر درساً ناقصاً ومملاً، ناهيكم أنه يعزز الكبت والإنطواء وضعف الشخصية لدى الطلاب، بل ويشل ملكة التعبير والتفكير والإبداع لديهم).

التوصية الثالثة: أن نجعل من يوم الجمعة يوم فرح وعيد بمعنى الكلمة بحيث نغتنم هذا الجمع الأسبوعي الغفير القادم لحضور خطبة وصلاة الجمعة، فنُعد له، وبعد أن ينفض الناس من صلاتهم، الأنشطة الإجتماعية والترفيهية والمسابقات الشيقة والمفيدة وهي فرصة كبيرة لنُفرّح الأولاد ولتتعارف العائلات على بعضها البعض بشكل منضبط، وفرصة ملائمة لتكوين الصداقات وتبادل الخبرات في نهاية النهار.

إن حلولاً إصلاحيةً بهذا القدر من الإيجابية والجرأة من شأنها أن تحدث ثورة إصلاحية كبيرة على جميع الأصعدة الإيمانية والفكرية والإبداعية والتوعوية والإجتماعية، بل من شأنها فيما لو طُبقت بالشكل الأمثل أن تنهض بهمم وطاقات شباب وشابات هذه الأمة ليصبحوا أفراداً منتجينَ فاعلينَ متحررين فكرياً وإجتماعياً وثقافياً، ليقوموا بخدمة مجتمعاتهم بإقتدار ووعي ومحبة بل ويكونوا محل إحترام وتقدير من باقي مكونات تلك المجتمعات، وهم بذلك لا ريب أنهم سينالوا رضى الله الذي استخلفنا جميعا على هذه الأرض لنبنيها بعقولنا وأفكارنا وعلومنا المختلفة وتفاعلنا وتعاوننا مع بعضنا البعض قبل أن نبنينها بسواعدنا ومعاولنا.

لا شك بعد هذا البحث ستثور ثائرة الكثيرين حول هذا الموضوع وسيضعون في الكفة المقابلة أحاديث وفتاوى عديدة، منها حديث " من مس الحصى فقد لغا". وعليه أقول وبفهمي الفطري البسيط لمقصد هذا الحديث، هو حض الجمهور على الإندماج بالخطبة وعدم شرود الفكر وإنشغال الجوارح بأشياء أخرى، وأحسب أن حديثاً كهذا لا يحض على الصمت أثناء خطبة الجمعة بل على التركيز والإندماج والتفاعل مع الخطيب، فمثلاً عندما يقول المدرس لطالب يلهو بقلم أو مسطرة، "دع القلم من يدك"، هو حتماً لا يأمر الطالب أن يلتزم الصمت أثناء الدرس بل يحضه على التركيز والتفاعل بمجريات الدرس وعدم الإنشغال بأشياء تلهيه، فيا ترى هل أسأنا فهم حديث "من مس الحصى فقد لغا" قروناً طويلة ولم ندري!!

ختاماً.. يتوجب على الجهات المعنية أن تستثمر هذا التدفق البشري الهائل كل أسبوع وتضع له الأطر الصحيحة لتوليد الوعي والمعرفة، تماماً كما تُستغل المياه الغزيرة المتدفقة في الأنهار ويتم توجيه مسارها إلى السدود والشلالات لتولد لنا الطاقة والكهرباء، ويكفي أن نعلم، أن هناك أكثر من 3.8 مليون مسجد حول العالم ناهيكم عن المُصَليات والزوايا المنتشرة في القرى والأرياف والأحياء الشعبية بكثرة، فمن المجحف بمكان أيها السيدات والسادة أن لا يُستثمر الخير في أماكن الخير والعبادة، ومن الظلم والتفريط أن تُهدر مئات ملايين الفرص بحجة أن الموروث مقدس ولا يجوز أن يُمس أو يعدل. لحسبي هذا ما تسبب بتقاعس أبناء الأمة فأصابهم فتور الهمة. أخيراً، أضع هذه الرؤيا أمام كل من ألقى السمع بقلب سليم، كما وأضع نفسي مسؤولاً مسؤولية تامةً عنها أمام الله عز وجل، وأضع الجهات المعنية أمام مسؤولياتها حيال ما أسلفت والله من وراء القصد.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

رؤيا.. معتز عمر أبوكلام

تورونتو-كندا

صباح يوم الجمعة 22 رجب 1440 الموافق ل 29 آذار/مارس 2019

شارك بنشر الكلمة.. ساهم بنشر الخير

مواضيع ذات صلة