قصة أمناء المكتبة الشجعان الذين أنقذوا كنوز البوسنة الثقافية

محمد شربي-سراييفو
تحتفل العاصمة البوسنية سراييفو بعيدها السنوي يوم 6 أبريل/نيسان الذي يواكب يوم رحيل القوات الغازية وتحريرها من احتلال ألمانيا النازية لمدة أربع سنوات ودولة كرواتيا الفاشية المستقلة سنة 1945، بعد مقاومة باسلة استمرت أكثر من أربع سنوات.
وكما يحتفل سكان سراييفو ويحفظون ذلك التاريخ جيدا، يتذكرون كذلك -بمزيج من الأسى والألم- عشية 6 أبريل/نيسان 1992، حينما بدأ العدوان الصربي بفرض حصار ظالم على المدينة استمر 1425 يوما.
فبعد أن انهارت الشيوعية وتفكك الاتحاد السوفياتي، تبع ذلك تفكك دولة يوغوسلافيا، وأعلنت دولة سلوفينيا استقلالها، ثم تبعتها دولة كرواتيا، ثم دولة البوسنة والهرسك التي أعلنت استقلالها بتاريخ 1 مارس/آذار 1992، بعد استفتاء شعبي صوّت أكثر من 99% من المشاركين فيه لصالح الاستقلال.
ورفض الصرب نتائج الاستفتاء وفرضوا حصارا عسكريا على العاصمة البوسنية -في مثل اليوم قبل 28 عاما- مستغلين تفوقهم العسكري وضعف تسليح البوسنيين المسلمين الذين شكلوا أول فيلق عسكري لهم بتسليح بدائي في 1 سبتمبر/أيلول من العام ذاته.
وسهلت سيطرة الصرب على المرتفعات عمليات القنص والقصف التي حصدت أرواح الآلاف أثناء وقوفهم في طوابير المياه أو ذهابهم إلى المدارس، كما حصدت مجزرتان -بينهما ستة أشهر- استهدفتا سوق مركالا، 66 قتيلا ثم 37 قتيلا.
ولم يغير مسار الحرب وحصار العاصمة إلا التحرك الدولي بعد مجزرة سربرنيتسا في يوليو/تموز 1995، فقد تدخل حلف الناتو مستهدفا مواقع مليشيات صرب البوسنة حول سراييفو، وهو ما دفعهم إلى وقف القصف وسحب أسلحتهم وموافقة راعيهم الزعيم الصربي سلوبودان ميلوسوفيتش على الجلوس إلى طاولة المفاوضات برعاية أميركية.
وطوال سنوات الحرب، لم يعانِ أهل سراييفو ويلات الحصار فحسب، بل كانت المدينة -خلال أيام حصارها الـ1425- تقصف من كل اتجاه، ولم يستهدف المعتدي تدمير البنايات السكنية فقط بل شمل أيضا المدارس والجامعات والمكتبات، مما دفع البعض للقول إنها حرب "إبادة ثقافية" في الأساس.
 
▪︎ أمناء المكتبة الشجعان
وكما ظهرت بطولات البوسنيين من أجل الحفاظ على حياتهم، ضحوا كذلك للدفاع عن ثقافتهم، إذ عرّض كثير من البوسنيين حياتهم للخطر من أجل إنقاذ الكنوز الثقافية والعلمية.
 
وتم قصف مكتبة البوسنة الوطنية وإحراقها عدة مرات ودمرت محتوياتها بالكامل، ومع ذلك قامت مجموعة صغيرة من محبي الكتب -منهم عامل النظافة وحارس المكتبة الليلي- بنقل المخطوطات سرا للحفاظ على جزء من المكتبة التي تحوي ذاكرة أجيال البوسنيين طوال ألف عام، وتضم العديد من المخطوطات الثمينة والكتب التي لا تقدر بثمن.
وقال الدكتور مصطفى ياهيتش مدير مكتبة الغازي خسرو بيك خلال فترة الحرب -للجزيرة نت- "أدركنا أن الحفاظ على تراثنا وكنوزنا الثقافية والعلمية أهم من الحفاظ على حياتنا، لأننا إن متنا سيأتي من بعدنا آخرون، أما إذا تم تدمير التراث فلن نستطيع أن نعوضه".
ويستطرد ياهيتش "إن موت شخص أو أكثر هو بلا شك أمر جلل، لكنه بالتأكيد أهون بكثير من تدمير الهوية الذي يعني موت الشعب بكامله".
ويتابع "لقد أدركنا أن الحرب بالأساس هي حرب على هويتنا، وأن أحد الأهداف الرئيسية للمعتدي هو تدمير ذاكرة الشعب البوسني المتمثلة في مكتباته، لذا، قررنا أن نقاوم".
ويضيف الدكتور ياهيتش "ظهر الأمر جليا بعد أن قصف المعتدي مبنى المكتبة القديمة لمدينة سراييفو (فييشنيتسا) بالقنابل الحارقة، ورأينا النار والدخان الكثيف يخرج من نوافذ المبنى العتيق، فأدركنا أن مكتبة الغازي خسرو بك في خطر شديد، ولا سيما أنها تحوي كنوزا تاريخية من منها مخطوطات نادرة باللغات العربية والفارسية والعثمانية، وغيرها".
ويختم مدير المكتبة البوسنية السابق حديثه للجزيرة نت، موضحا كيف حافظوا على الكتب: "قمنا بتنظيم أنفسنا في مجموعات قليلة العدد حتى لا نلفت نظر العدو أو جواسيسه. قمنا بنقل الكتب والمخطوطات والمطبوعات من مكان إلى مكان، مستخدمين صناديق الفاكهة، حتى وضعناها في مكان آمن، بعيد عن مرمى القصف المباشر. كدنا نقتل أكثر من مرة، لكننا والحمد لله نجحنا في الحفاظ على تلك الثروة البشرية القيمة التي ورثناها من أجدادنا، كي نورثها لأبنائنا وأحفادنا".
بعد انتهاء الحرب، قامت المشيخة الإسلامية بالبوسنة ببناء مبنى جديد لمكتبة الغازي خسرو بك، بتمويل من دولة قطر، وتم افتتاحه في يناير/كانون الثاني 2014. المبنى الجديد يجمع بين العراقة في شكله وتصميمه، والحداثة في تجهيزاته وطريقة عمله، وتم عمل "كتالوجات" للمخطوطات القديمة، وحفظت عن طريق "الميكروفيلم" بمساعدة الحكومة الماليزية.
 
▪︎ قبلة البلقان الثقافية
وتلعب المكتبة دورا مميزا في الحياة التعليمية والثقافية والبحثية، ليس في دولة البوسنة والهرسك فحسب بل في أوروبا والعالم أجمع، حيث يقصدها الدارسون والباحثون للتعرف إلى التاريخ والتراث الثقافي العلمي الشرقي.
كما يستفيد من خدمات المكتبة آلاف الباحثين من خلال مشروع المكتبة الرقمية الذي يتيح الاطلاع على كل الدوريات التي صدرت بالبوسنة خلال 150 عاما ماضيا.
وفي لقائه مع الجزيرة نت، قال عثمان لافيتش المدير الحالي لمكتبة الغازي خسرو بك "لا شك أن مكتبة غازي خسرو بك هي رابط مهم في الفسيفساء الثقافية في البوسنة والهرسك وخارجها. فمن خلال وجودنا في المبنى الجديد الذي تم بناؤه كهدية من حكومة وشعب قطر، تلعب المكتبة دورا متميزا في الوسط الثقافي والعلمي".
وتعد المكتبة اليوم بمثابة متحف وأرشيف ومكتبة. تقام فيها سنويا سبعون مناسبة علمية وثقافية، ويستفيد من خدماتها أكثر من سبعة آلاف عضو، وتستقبل عشرات المستخدمين يوميا في غرف القراءة.
ويختم مدير المكتبة قائلا "نعمل على تحقيق مهمتها الأساسية التي حددها المؤسس العظيم الغازي خسرو بك، في وثيقة التأسيس عام 1537".
 
المصدر : الجزيرة

مواضيع ذات صلة