المرأة والتطرّف بقلم البروفيسور عماد فوزي شعيبي

المرأة والتطرّف "محاولة لاستلهام منهج مُضاد للتطرف من العقل الأنثوي"

البروفيسور عماد فوزي شعيبي

يصعب أن نتحدث عن التطرف في ملكوت العقل الأنثوي، إذ أن الطبيعة المُخّية للأنثى لا تفسح في المجال أمام التطرف في السلوك أو الأفكار، وقلة هم النساء المتطرفات. بالعموم فالنساء لسن متطرفات، الأمر الذي يستطيع المرء أن يبني عليه الاستفادة من طبيعة المُخّ الأنثوي الكامن في كل من الجنسين لاستخدامه لمكافحة الميل (الطبيعي) للتطرف عند الذكور، ذلك أن استخدام النصف الأيمن من المُخّ يساعد النصف الأيسر(الذكري) على تخفيض درجة استعداده للتطرف وفقاً للاعتبارات التالية: يميل النصف الأنثوي فينا لعدم عبادة النص، ونعني به النصف الأيمن من المخ. فالمقاربة التي تستخدم أنثوياً للأفكار ذات بعد وظيفي، بمعنى أن القيمة عند الأنثى هي لمدى مقاربة الأفكار للحياة اليومية، وليس للأفكار بحد ذاتها. العقل الأنثوي هنا براغماتي (والبراغماتية هنا أنثوية وليست ذكرية).  بمعنى آخر، القيمة في العقل الأنثوي هي لمدى توظيف الأفكار في الحياة لتحقيق أفضل وضع معاش وأحسن سكينة حياتية وأعلى درجات (متعة) إنسانية وأفضل تحقق إنساني اندماجي وائتلافي مع الحياة وليس مع المثال أو الفكرة المطلقة. العقل الأنثوي عقل لا نصوصي. لا يحوّل النصوص إلى مقدسات خارج قطاعات الحياة.  هو عقل مسكون بالحياة. فالنص الذي لا يقارب الحياة وفق ما عرضناه سابقاً لا مكانة له في العقل الأنثوي. 

وهذا هو بداية نزع التقديس عن المفردات والجمل لصالح (أنتم أدرى بشؤون دنياكم). نعم، يحترم العقل الأنثوي النصوص المقدسة لكنها يقاربها من الحياة ويجعلها مادة لحياة أفضل لا لحياة مقدسة. فالمقدس في خدمة الحياة. العقل الأنثوي تعددّي. يرى الحياة بألوانها المتعددة. لا يراها بالتجريد الذي يقوم به العقل الذكري الذي يختزل التفرع إلى المفهوم؛ أي إلى الواحد. فالحياة متعددة الألوان؛ فيها كل الأشجار مثلاً ولا تختزلها مفردة شجرة التي تطيح بالتعدد، وهي مفردة تجريدية.عند العقل الأنثوي كل شجرة متعة وصورة وظلال وتفاصيل ودور ووظيفة. فالطبيعة أو الحياة في العقل الأنثوي يرمز إليها حجاب إيزيس في الميثولوجيا المصرية؛ فهو متعدد الألوان ويرمز إلى التنوع الخلاّق. "رمادية هي النظرية، لكن شجرة الحياة خضراء" كما يقول غوته. ففي العقل الذكري تقع الأفكار بين الأبيض والأسود وظلالهما الرمادية لكن في العقل الأنثوي في الحياة ألوان أخرى لا تراها النظرية. لذلك، فالعقل الأنثوي لا يتطرف لأنه يعترف بالتعدد. ولا يعيش النظرية ولكنه يعيش الحياة. 

 في الوقت الذي يميل فيه العقل الذكريّ إلى التنظيم (التراتبي) الذي يوجد على شكل هرم فيه قائد ومستويات أدنى فأدنى، يميل العقل الأنثوي إلى التنظيمات (الدائرية والإهليلجية). هكذا هو حال النساء عندما يجتمعن، لا يكون بينهن قائد. كلهن قادة وكلهم عاديون، وإذا برزت بينهنّ قائدة (يمررن) لها ريادتها بتفهمٍ لاختلافها عنهنّ. ويريْن في ذلك استثناء. اجتماع النساء دائري أو إهليلجي، تتساوى فيه كلّ الأطراف النسوية.  هنا تنتفي الحاجة إلى التطرف.  فهنّ يمتصصن انفعالات بعضهن. ويرون كل شيء طبيعياً وعادياً ما دام موجوداً في الحياة، وما دام موجوداً في حياتهن الجماعية. إنهن أمهات بامتياز لأنهنّ قادراتٌ على فهم طبائع ذكورهن واحتوائها وطبائع إناثهن وغمرها، والتغاضي عن عدم كمالهن. فالعقل الأنثوي (دائري)، لأنه يحتوي ويعترف بعدم كمال أحد، في وقت يفضي العقل المتطرف إلى السعي الحثيثِ الواهمِ نحو الكمال الذي لا يتواجد أصلاً في الحياة. لهذا فالنساء لا يتطرفن لأنهن يعرفن بالفطرة التي بُني عليها النصف الأيمن من المُخّ أن لا أحد كامل ولا أحد سيكون كاملاً.

وهذا درس من أهم دروس عدم التطرف.  فما دام البشر ناقصون ولن يكتملوا فلماذا يتموضع أحدهم في مكان الله ليجعل من الآخرين عبيداً، وكأنه الكامل و هم الناقصون. الحقيقة عند الأنثى أكثر من نسبية. إنها حقيقةٌ كائنةٌ في سياق، ولهذا فهي محضُ صحيحة؛ إذ لا معنى للحقيقة المطلقة عند العقل الأنثوي لأنها حقيقة تجريدية. فالحقيقة هي تلك التي تندرج في سياق الأحداث والوقائع وما هو صحيح اليوم قد لا يكون صحيحاً غداً. الحقيقي هو الذي تتطابق فيه الرؤية مع الموجود من كل زواياه، أما الصحيح فهو الذي نراه من زاويتنا ومن وجهة نظرنا. ولهذا فليس ثمة من حقيقة مطلقة، إنها من زوايا مُخّتلفة صحائح لنا. فالفرق كبير بين (True) و(Real).

ولهذا فالعقل الأنثوي يبدل حقائقه مع الزمن ومع تبدل الوقائع والزوايا وخبرات الحياة. 3. التلقي هو سمة العقل الأنثوي. فالرمز المعروف لدى الأنثى و آلهة الجمال فينوس هو (♀) وهو دلالة التلقي. والفكرة مأخوذة على المستوى الميثولوجي من (الرحم) الذي يتلقى ويحتوي. لهذا يتلقى العقل الأنثوي ما لدى الآخرين. يستمع لها إذ تمورُ في داخله، فيعجنها ويخبزها، ويصبر عليها. إنه لا يتلقى كسلة مهملات. فعلى العكس، الإنصات هو استدعاء للوعي المعمق وتفحّص للأفكار والانفتاح على الآخر والاستجابة. فالصبر يسمح باستخدام النصف الأيمن من المُخّ ليتفحّص ما لا يراه العقل النمطي (الذكري)، وعندئذ يرى (بشكل اثبثاقيّ) ما هو غير مألوف وغير مفكّر به لينفتح على الأفكار الخلاقة الخارجة عن السياق. 

فالأفكار الجديدة هي تلك التي لا يحتملها العقل النمطي (المتطرف) لأنه يميل إلى الركون لما هو سائد، أما الأفكار الإبداعية فهي أفكار أنثوية؛ بمعنى أنها تتأتى من النصف الأيمن الأنثوي فينا الذي لا يفكر كما هو سائد. فكل الحالات الإبداعية العبقرية كان يكتنفها تفكير لا نمطي، حيث كانت (الأنثى) في عقول عباقرتها هي التي تتكلم وهي التي (تناول) النصف الأيسر من المُخّ (الطريقة). ففي لحظات التاريخ العلمي والإنساني الإبداعي الممتد من الفن إلى الأدب إلى الشعر... إلى العلوم، كانت الأنثى الخارجة عن النمطية والسائد والمعتاد عليه وثقافة (قالوا له)، هي التي تخرق الأسوار والقلاع التي يشيدها عقل التطرف الذي يعيش على السائد؛ العقل المحافظ الذي لا يريد أن يتطور لأنه لا يريد أن يهزّ أركان طبيعته السائدة التي تعيش شاخصة إلى الماضي. فتلك العقول التي تعيش في الماضي لا تعيش الحاضر ولا تتوق نحو المستقبل، ليست أنثوية الطابع. 

يضحي العقل الأنثوي بالأفكار المسبقة التي تشكِّل أساس كل تطرف. ولا يعترف بالدوغمائيات (أي الأفكار المغلقة المتصلبة) و يرفض العيش في محبس الماضي والسائد، ولا ينحر المستقبل على مذبح ما يتوافق عليه الناس، حتى ولو كان خطأً. هذا العقل الأنثوي الذي يتلقى يحمي نفسه من (الأفكار) بطريقة العيش في القوقعات، هو نفسه العقل الذي يستطيع التكيف مع العماه Chaos؛ أي الفوضى المُطلقة التي تذهب إلى حد عدم التنظيم إطلاقاً، لأنه ينصت إلى هذا الهلام العشوائي الفوضوي المتلاطم الأمواج، ويجد فيه ما هو إيجابي ليوظِّفه لصالح الحياة. ففي أبشع حالات الحروب فوضوية تجد سكينة الأنثى فرصة في كل المتلاطم من حولها لتحويلها إلى منصةً إيجابية لقول كلمة فيها تفاؤل للغد. 

فتراها تلتقط كل ما يمكن توظيفه لبناء مُخّتلف يبنى عليه المستقبل، ذلك أن عقل التلقّي عقل يعيش في المستقبل ويفتح آفاقه. لذلك لا يمكن أن يكون بأي حال من الأحوال عقلاً متطرفاً. الشعور سمة أساسيّة في العقل الأنثوي، ونعني به ما يتجاوز العاطفة، وتكون العاطفة جزءاً من الشعور. فالشعور هو التقييم بالمناسب وغير المناسب، بالمؤتلف وغير المؤتلف، بالجميل وغير الجميل ...الخ. كما أسلفنا شرحاً، هذا الشعور لا علاقة له بالمنطق، إنه (صلة) يقيمها الإنسان بينه وبين الأشياء والمحيط والبشر والأفكار. 

 لا يستغل الآخرين لأنه يشعر بهم، ولا يعتبرهم أشياء أو أدواتٍ أو كمّاً مهملاً، ولهذا فهو بالشعور يحافظ على الذات الإنسانيّة المقابلة، ويعترف بها، ويشعر بها، ويتعاطف مع كل تبدّلاتها ومزاجياتها، لأن للشعور صلةً بالتبدلات والتغيّرات. وهنا يحترم عقلُ الشعور هذا عقل الآخرين، حتى وإن اختلف معهم. ولهذا فهو لا يعتبر الخلاف مع أفكار الناس خلافاً مع شخصياتهم وذواتهم. ولأن الاختلافَ مع الأفكار، بفصلها عن الذات الإنسانية الحاملة لها، لا يُقيم الأحقاد، يكون للعقل الأنثوي السبق في نزع مبررات التطرف، لأن اللا تطرّف قبول و تنوّع وترسيخ لكون الإنسانِ كما هو، وبالتالي، لحقّه في الحياة كما هو.

هنا تتحوّل القيم عند العقل الأنثوي إلى شعور يحكمها تقييم مناسبتها للواقع أو لا. فهي لا تغدو قيماً كسيفٍ مسلطٍ على البشر، إنما لأنها تلائم وجوداً أفضل لحياتهم وهي من قبيل الانسجام، فإذا لم تنسجم فهي ليست بقيمٍ.  الحدس سِمة أساسية من سِمات العقل الأنثوي، بخلاف العقل الذكري الغارق في الإحساسات. وهنا الحدس سمة لا مادية ( بعكس حال الإحساس)، فهو؛ أيْ الحدس سمة (ميتا META)، أي فوق مادية، فهو متعالٍ عما هو مادي. ولهذا فالحدس يقيم مع الشعور علاقة بالروحانيات لا تجعل أي دين أكثر من إيمان، لا تجعله تديْناً نصيّاً أو تطرفاً جاهلاً. لا يهتم العقل الأنثويّ المؤمن إلا بالله، لا بالذين يعرفونه أو لا يعرفونه. يهتم بجمال الله لا بقبح من يعتمده ذريعة للإلغاء و للقتل. ولهذا فهو مؤمنٌ وليس محضَّ مُتديّن. عقل الحدس الأنثوي هذا ينزع أيَّ مبرِّر للتطرف لأنه مسكون بما هو متعالٍ عن اللحظة وعن الناس وعن الأشياء وعن المطامع. 

لا يعيش العقل الأنثوي في الثنائية المتطرفة (إما...أو). لا يقول: إما معي أو ضدي، لا يقول:(صح أو خطأ)، (أبيض أو أسود)، (نعم أو لا) التي تؤسس للتطرف. فهي ثنائيات مانوية. فالعقل الأنثوي مسكون ب (كلاهما ... و)، لديه دائما خيارات جمعيّة تجمع المتناقضات في حالة تتام بينهما، وتعايش. تتعايش الفكرة ونقيضها في العقل الأنثوي، لهذا يكون التسامح دينَه ودينونَه. ولهذا لا يعيش في التطرف، لأنه يتعايش تكافليّاً مع الآخرين. كلٌ يكفل الآخر. ويراهُ ضروريّاً.  يعيش العقل الأنثوي على التعاون. يرفض الاستئثار. لا يتكبر على المعرفة. لهذا إذا ضلت الأنثى الطريق فإنها تسأل ولا تجد غضاضةً في هذا. لأنها لا تعتبر نفسها مالكة الحقيقة. ولا تعتبر أن لا أحد يعرف سواها. فتؤسس بالتعاون مع الآخرين ودّاً لا يفسح في المجال أمام التطرف، بل يلغيه في المهد.

عقل الأنثى ترابطيٌّ يرى التفاصيل في ترابطها ببعضها البعض وفي سياقها، ولا يؤخذ بما هو خارج محيطه، لذلك فالأنثى لا تتطرف؛ لأنها لاتفصل لا ذاتها ولا الأشياء عن المحيط. فالوجود المحيط مهم ولذلك فهي لا تلغي أحداً عن محيطه. فتستبصر الروابط بين المحيط وبين البشر، لهذا عندما تتداخل عندها الأمور تتراجع إلى الوراء قليلاً لترى الموضوع والبشر والأفكار والأشياء من منظورٍ بانورامي، أي ككلٍ؛ حيث الكل أكبر وأكثر من مجموع أجزائه، و حيث كلُّ جزء له قيمة في هذا الكل وهو بحد ذاته له قيمة منفرداً، كما أيةُ قطعه في لوحة موزاييكية. ولهذا فهي لا تلغي ولا تستغني عن أي شيء منفرداً أو في سياق. من هنا إذ اعتمدنا ما لدى العقل الأنثوي مما أوردناه سابقاً منهاجاً للتعليم، فإننا نستطيع أن ننتج عالماً بلا تطرف. هذا نص من كتاب كيف تفكرالأنثى للكاتب يقدمه الكاتب للجالية العربية في كندا، حيث كلُّ الحب.  

ishueibi@gmail.com +963932881104 

"صحيفة وموقع أيام كندية تشكر جزيل الشكر الكاتب البروفسور عماد فوزي شعيبي أن أختار منبر أيام كندية ليخاطب من خلالها الجالية العربية في كندا."

مواضيع ذات صلة