أتدري إلى أين أنتَ مسافر؟
أنتَ مسافرٌ إلى مدينتك التي لم ترها بعد.. إلى الشام.
سمعتَ أباك أمس وهو يقول: "غدا سنسافر إلى الشام."
وجعلت تنتظر الغد.
تنتظره وأنتَ لا تدري من أمر السفر شيئاً. كل شيء غامض كفرح مبهم. ترى ما الذي أضاء أعماقك الغضة بالفرح وأنت لا عهد لك بالسفر. أم تراها أعماقنا تملك معان للأشياء التي لم نختبرها بعد؟ ولعل معانيها تكون أكثر ثراء مما هي عليه في الحقيقة. ولِمَ لا.. ألم تطلق العنان لخيالك في تلك الليلة التي آويت فيها إلى فراشك وجعلت تكوّن صورة خصبة عن السفر قطفت معانيها من خيالك الطليق، ومن حكايات ما قبل النوم وحديث أبويك عنه. بيد أن خيالك كان أكثر تلك المصادر ثراء.
غفوتَ ليلتها.. سافرت على متن غيمه إلى أبعد الأحلام منتظراً أن يهز الصباح غيمتك ويوقظك وهو يقول لك: "ها قد أزف وقت السفر يا صغيري."
السيارة على وشك الانطلاق، وأنت متهيئ جانب النافذة للقاء السفر، ذلك الطريق الذي رسَمَته أحلامُكَ وجعلته بعيداً.. بعد الأحلام التي تمتطي الغيوم والنجوم.
انطلقت السيارة. راحتْ تلتهم المسافات وتعرّفكَ على ما لم يجل في أحلامكَ التي أضحتْ فقيرة أمام ما رأيت.
ما أروع السفر! أيحوي كل هذه الأشياء الجميلة: قطعان الماشية على السفوح البعيدة، والكلاب التي تنبح وتتبع السيارة ثم تعود يائسة، والأطفال في قنابيزهم وهم يلوحون لك، وأكوام الحصيد، وهذا الطريق الذي يحب أن يمازحكَ إذ كلما صعدتْ السيارة مرتفعاً ثم هوتْ دغدغ أعماقك.
تتمنى لو كان بإمكانكَ أن تبقي عينيك شاخصتين بالسفر لكن التعب قد تسلل إلى مآقيهما فغفوت فيما كنت ترقب من بعيد حصاناً برياً يسابق السنابل الخضراء.
ويلتهمُ الحلمُ ما بقي من السفر. تفتح عينيك على مدينة قديمة حواريها سندبادية وجدرانها من ياسمين، وأبوك يوقظكم قائلا:
"قوموا يا أولاد لقد وصلنا إلى الشام."
▪︎"تكوينات (٥) ".. مجموعة قصصية كتبها القاص الأستاذ محمد صباح الحواصلي/ أيام كندية، ونُشرت في ٢٥ أكتوبر ٢٠٢٠