الأوله في الغرام.. القاص الأستاذ محمد صباح الحواصلي/ أيام كندية

ذات عصر، منذ أربعين عاماً، كنت مع خطيبتي وشقيقتها الكبرى عند موقف المعرض في شارع بغداد ننتظر سيارة أجرة لتقلنا إلى بيت خطيبتي في المزة. كنت ألوح لسيارات الأجرة الصفراء عندما وقفت إحداها بعد انتظار. فتحت باب التكسي الخلفي للأخت الكبرى وخطيبتي، وجلست أنا إلى جانب السائق.
    "مزّة أوتستراد.. يا معلم."
    وانطلق السائق الذي كان يستمع إلى أغنية (الأوله في الغرام) لأم كلثوم، ولتونا أصبحنا كلنا نصغي بامتثال صامتين، ورأيت شوارع دمشق تركض خلفنا ومن حولنا مسرعة مبتهجة.
    قطعت الأخت الكبرى صمتنا وامتثالنا وقالت للسائق:
    "أخي.. أريد أن أشترى منك هذا الشريط."
    نظر إليها من خلال المرآة مندهشاً ثم قال:
    "على حسابك أختي.. مالو قيمة."
    قالت له:
    "لا.. له قيمة، وأنا أريد أن اشتريه منك لو سمحت."
    "طيب.. اللي بيطلع من خاطرك أختي.. ليرتان منيح؟"
    فتحت الأخت الكبرى حقيبتها وأخرجت مئة ليرة واعطتها للسائق قائلة:
    "خلي الباقي لك.."
    بفرح ظاهر شوشته الدهشة قال السائق:
    "كتير.. والله كتير أختي."
    فقالت الأخت الكبرى:
    "مو كتير أخي.. خليه بالمسجلة نسمعه واعطني إياه عندما نصل."
    وعاد الصمت والأمتثال من جديد سيداً للوقت المتبقي للوصول، وسمعنا: "حطيت على القلب ايدي وأنا بودع وحيدي." ثم وصلنا إلى المزّة. قلت للسائق:
    "عند جامع الأكرم من فضلك."
    "أخرج السائق الشريط وأعطاه للأخت الكبرى، ودفعت أجرة التكسي، وسمعت السائق يهتف في غبطة:
    "الله يديمك يا شام."
    ونحن ندخل البناء، أعطتنا الأخت الكبرى الشريط وهي تقول:
    "هذا لكما.." وابتسمت وتابعت: "مو محرز بس خلّيه للذكرى.. الأغنية بديعة مو هيك؟" وكانت عيناها تنفحان في عيوننا إحساساً حميمياً لا تعوزه الكلمات.
    ودخلنا المصعد الكهربائي إلى الطابق الثامن.
    ومضت السنون، مضى منها الكثير، وودعت الشام حينها، والشريط لا يزال في حوزتي، والذكرى لا تزال تزورنا وتغمرنا بأشواقها، إلا دمشق – يا حبّة عيني – فلم تعد تزورنا إلا حزينة.. "حطيت على القلب ايدي وأنا بودع وحيدي."
*
▪︎ بقلم القاص السوري الأستاذ محمد صباح الحواصلي/ أيام كندية

مواضيع ذات صلة