ذكريات أبي.. مع الشاعر نزار قباني،

ذكريات أبي.. مع الشاعر نزار قباني، رحم الله نزار.. كان أيقونة دمشقية فريدة من نوعها. كان اسطورة الحب والياسمين فاح عطره شرقاً وغرباً و ملأ الدنيا بأجمل الشعر والأحاسيس.
 
كان بيت أهل نزار قباني قرب معمل أبي وعمي (عمر أبوكلام الشهير بالسكري وأخيه صبحي (رحمهم الله) في دمشق القديمة وكانت تربط العائلتين علاقة حميمة أكبر من صلة الأهل فيما بينهم وأكثر من الأصحاب، صحبة الأيام الخوالي التي لا تقدر بثمن.  تعلم أبي وعمي كار الملبس والسكاكر على يد والد نزار المغفور له توفيق قباني ( أبو معتز ) ومن شدة محبة أبي لوالد نزار.. أحب أن يسمي أحد أبناءه بهذا الأسم فكان اسم (معتز) من نصيبي إذ كنت أخر العنقود. كان كثيرا ما يحدثنا أبي.. عن تلك الصحبة التي جمعته بعائلة شاعرنا الكبير نزار قباني والتي امتدت لأكثر من نصف قرن من الزمن بدأت منتصف الثلاثينات من القرن الماضي. كانت ذكريات تعبق أفق الخيال، جميلة جمال الياسمين زاخرة بالحب والوفاء. (رحمة الله عليهم وطيب الله ثراهم).

 منذ أيام قليلة كنت في حديث أنا وأخوتي وعادت بنا الذكريات إلى الزمن الجميل وعاد بنا طيف والدي الحبيب والود الذي كان يجمعه ب نزار قباني وتذكرنا كيف كان كلما زار شاعرنا دمشق الحبيبة، كان يفاجئ والدي بالزيارة، يدخل نزار إلى الدكان العتيقة، ينادي بصوته الشاعري الجميل: {وينك يا عمر.. وينك.. والله اشتئنالك واشتئنا للحارة واشتئنا لتراب الشام، ويلتفت أبي مستأنساً بسماع ذلك الصوت الشجي المفعم بالحب ليجد أمامه نزار..  ويغمران بعضهما البعض ودموع الحنين والسعادة تزرف من عيونهم لتملئ وجهيهما الجميلين مختصرين بهما وجوه أهل الشام الأصيلة بكل ما فيها من دفئ وحب وحنان. ويدور حديث الألفة بينهما بكل لهفة ويمسحان دموع بعضهما بكفيهما الواسعتين وكنا أنا وأخوتي وأنا الصغير بينهم ننظر بكل غبطة وفرح متفاجئين مذهولين بتلك العلاقة الحميمة الصافية. ثم إذا ما انتهى ذلك العناق الطويل.. يفرغ لنا نزار.. يفرغ لأولاد صاحبه عمر.. يغمرنا ونغمره، يسأل عن أحوالنا وكان وجهي يحمر خجلا لصغر سني وأمامي هذا الشاعر بقامته الشامخة وهو يسألني عن اسم مدرستي وفي أي صف أصبحت  وإن كنت شاطراً أم أعذب أنستي..). ثم يثلج صدورنا بذكرياته الجميلة مع والدنا وعشقه الأبدي لحارته وللشام مسقط رأسه. ثم يجلس نزار.. على كرسي القش الخشبي البسيط وهو يتأمل ويشتم رائحة الشام في كل شيئ تقع عيناه الخضراواتان عليه وأتخيل أن شريط ذكرياته كانت تمر أمامه في تلك اللحظات.
ثم يهم نزار..  ويتئبط  ذراع والدي ويقول له { قُم يا عمر خدني عالجواني عالمعمل بدي شوف الملبسات تازه اشتقت لرائحة الملبس والراحة والنوكا }. ويمشيا معاً إلى المعمل قرب الدكان ويدخل نزار.. ليتذكر كيف يصنع الملبس الشامي والقضامة السكرية، يلقي على العمال التحية بحرارة ويضج المعمل بالغبطة بهذا الشاعر الكبير وجدوه فجأة أمامهم دون سابق إنذار. يا لها من مفاجأة تملئ القلب سرورا.  ثم يتناول نزار.. (كمشة من ملبس اللوز) وهو ما يزال في (الطاسة) على النار يتذوقها ويشم رائحة الفانيليا ويغمض عينيه بسعادة ليتذكر منبته.. وطفولته حين كان يلعب قرب المعمل ثم يتذكر شبابه الذي أمضاه في حارته القديمة مسقط رأسه في منطقة مأذنة الشحم قرب الجامع الأموي الكبير وسط مدينة دمشق العريقة.
رحمك الله يا نزار ملئت الدنيا شعراً وحباً ورحم الله صاحبيك عمر وصبحي..
 
بقلمي ووجداني وذاكرتي
معتز عمر أبوكلام
heartheartheart
 من روائع نزار قباني..
 القصيدة الدمشقية
هذي دمشقُ وهذي الكأسُ والرّاحُ...إنّي أحبُّ وبعـضُ الحـبِّ ذبّاحُ... أنا الدمشقيُّ لو شرّحتمُ جسدي... لسـالَ منهُ عناقيـدٌ وتفـّاحُو... لو فتحـتُم شراييني بمديتكـم... سمعتمُ في دمي أصواتَ من راحوا... زراعةُ القلبِ تشفي بعضَ من عشقوا... وما لقلـبي إذا أحببـتُ جـرّاحُ... الا تزال بخير دار فاطمة... فالنهد مستنفر و الكحل صبّاح... ان النبيذ هنا نار معطرة... فهل عيون نساء الشام أقداح... مآذنُ الشّـامِ تبكـي إذ تعانقـني... و للمـآذنِ كالأشجارِ أرواحُ... للياسمـينِ حقـولٌ في منازلنـا وقطّةُ البيتِ تغفو حيثُ ترتـاحُ... طاحونةُ البنِّ جزءٌ من طفولتنـا... فكيفَ أنسى؟ وعطرُ الهيلِ فوّاحُ... هذا مكانُ "أبي المعتزِّ" منتظرٌ... ووجهُ "فائزةٍ" حلوٌ و لمـاحُ... هنا جذوري هنا قلبي هنا لغـتي... فكيفَ أوضحُ؟ هل في العشقِ إيضاحُ؟... كم من دمشقيةٍ باعـت أسـاورَها... حتّى أغازلها والشعـرُ مفتـاحُ... أتيتُ يا شجرَ الصفصافِ معتذراً... فهل تسامحُ هيفاءٌ ووضّـاح... خمسونَ عاماً وأجزائي مبعثرةٌ... فوقَ المحيطِ وما في الأفقِ مصباحُ... تقاذفتني بحـارٌ لا ضفـافَ لها... وطاردتني شيـاطينٌ وأشبـاحُ... أقاتلُ القبحَ في شعري وفي أدبي... حتى يفتّـحَ نوّارٌ وقـدّاحُ... ما للعروبـةِ تبدو مثلَ أرملةٍ؟... أليسَ في كتبِ التاريخِ أفراحُ؟... والشعرُ ماذا سيبقى من أصالتهِ؟... إذا تولاهُ نصَّـابٌ ومـدّاحُ؟... وكيفَ نكتبُ والأقفالُ في فمنا؟... وكلُّ ثانيـةٍ يأتيـك سـفّاحُ؟... حملت شعري على ظهري فأتعبني... ماذا من الشعرِ يبقى حينَ يرتاحُ؟

 

مواضيع ذات صلة