مفتاح بلا ذاكرة ، وریشة بدون دماغ مبدعها ناجي العلي، وشعب بلا هویة .. إنها صفقة القرن..
في وضح النهار وفي قلب عاصمة أوربیة وعلى مقربة من حدیقة شهیرة عرفت بكونها ركناً للحوار الدیمقراطي (حدیقة هاید بارك)، ولیس بعیداً عن ساحة ترمز الى واقعة تاریخیة عرفت باسم (ساحة الطرف الأغَرّ)، یندفع شاب متین البنیة یخفي بین ضلوعه مسدساً كاتماً للصوت لیصوب فوهته إلى دماغ الرسام الفلسطیني الشهیر، رفیق حنظلة (ناجي العلي)، ویسقط ناجي مضرجاً بدمائه، ویظل مقاوماً الموت إلى أن یسلم الروح بعد أیام، وینجو هارباً حنظلة الرمز المعروف في رسوم الفنان ناجي.. وفي وضح النهار وفي شقة قریبة من نهر السین في العاصمة الفرنسیة باریس رمز الثقافة والنور، یقاد السیاسي الرمز المهدي بن بركة ومن قبل رجلین ارتدیا ثیاب الشرطة الفرنسیة بحجة الاتفاق معه على إنتاج فیلم یخص قضایا العالم الثالث، یدخل المهدي جسداً على قدمین، ویخرج قطعاً ممزقة في أكیاس ترمى في نهر السین نفسه كما أثبتت التحقیقات فیما بعد، یمضي المهدي بعیداً ولكن ذكراه تظل نابضة خالدة تواجهك في العواصم العربیة كلها وفي شارع من شوارع عاصمة أریق الدم فیها وهي دمشق..
وعلى مقربة من منزل الأدیب العربي المعروف نجیب محفوظ یندفع شاب أخفى بین ضلوعه أیضاً خنجراً هذه المرة أراد أن یصیب رأس الأستاذ محفوظ في مقتل، وكأنه یظن أنه سیردي الجنرال كلیبر كما فعل سلیمان الحلبي، وشتان بین الأمرین.. وینجو الأستاذ محفوظ الذي أصیب في رقبته، وینجو معه الشهید فهمي عبد الجواد الذي یبعث حیاً من بین سطور روایة بین القصرین، وینجو معه جبل وقاسم وعرفة الخارجون من صفحات روایة أولاد حارتنا (وهي السبب المعلن لمحاولة القتل)، و برفقة الاثنین تبدو عباءة عاشور الناجي تظلل الكل.. عاشور حبیب الفقراء الذي اختفى ولم یعد وظل رمزاً محیرا في ملحمة الحرافیش.. وفي وضح نهارٍ دامٍ تندفع الجموع من أبناء فلسطن حاملةً معها في جیوبها وبین ضلوعها مفاتیح بیتوتها على أمل عودة طالت كثیراً وفق تغریبة لم تنته بل وغدت رمزاً لتغریبات عربیة كثیرة .. المفاتیح، رأس الأستاذ نجیب محفوظ، جسد المهدي بن بركة، ریشة ناجي العلي برفقة حنظلة الهارب الباقي كشاهد، هل كل هؤلاء مطلوبون؟
یبدو الدماغ هو الجائزة الكبرى في صفقة، أو صفعة، أو بیعة القرن!.. یحار المرء: ألسنا نتوق جمیعاً لعناق صاحب عائد إلى حیفا غسان كنفاني؟ أما زلنا نبحث عن حل للغز شهداء الفردان في بیروت (كمال ناصر وكمال عدوان ومحمد یوسف النجار) ؟ على الواحد منا أن یسأل في لحظة كهذه: لماذا یبدو العقل العربي إبداعاً وسیاسیةً و طفولةً وشباباً هو النقطة المركزیة المعنیة بالقتل؟ من یطرح سؤالاً كهذا یحاول أن یجد حلاً للغز آخر: ما سرّ القضاء على نسبة كبیرة من حاملي القلم في السنوات الأخیرة من سنوات الصراع ( أو الزلزال، أو الحراك، أو الربیع العربي)؟ قد یبدو الفعل أشمل زمناً وأكثر عمقاً من مجرد أحداث هزت منطقتنا منذ تسع سنوات، وأدت الى تغریبات مهدت لها التغریبة الأولى عام ١٩٤٨. إنك كباحث تتحدث عن كفاح وصراع مدیدین ربما عادا بجذورهما إلى أبعد من قرنین من الزمن.
ألیس هذا اثباتاً على حقیقة مفادها أن المستهدف الأساسي من عملیة الإبادة والقتل هو المبدع و الفنان والكاتب والاعلامي الذي أدرك البوصلة الحقیقیة للصراع ؟ سننتظر طویلاً لنعي تماماً ماذا یعني أن تغتال حلماً لأجیال بحالها، وماذا یراد للعقل العربي أن یكون كي ینجو من القتل والتشرید والإخفاء القسري أو الطوعي.
هل یراد لنا أن نظَّ ل على ضفاف عشق الماضي والتغني بأغنیة من نوع أخي جاوز الظالمون المدى، وأن نقصي تماماً عن الأسماع والأبصار عملین شهیرین، زهرة المدائن، و سنرجع یوماً الى حینا؟ واضح تماماً أمامنا ما الذي یهدف إلیه صناع صفقة القرن الراغبون بإخفاء مفاتیح البیوت والراغبون بأن نخلع عباءة نزار وأن ننسى ما رددناه معه: " أبحث عن بیتي الذي هناك، عن وطني المحاط بالأسلاك، أبحث عن طفولتي، وعن رفاق حارتي.. عن كتبي، عن صوري، عن كل ركن دافئٍ، وكل مزهریة". ثمة فنان عربي قدیر كان یبحث عن كتبه، عن صوره، عن كل ركن دافئ، وكل مسرحیة، وهو الفنان الأستاذ نهاد قلعي بطل مسرحیة ثمن الحریة الذي یعتبر رمزاً للاعتداء على العقل والفكر بالمعنى الجسدي والمادي وبالمعنى الروحي..
والآن، ما الذي بقي؟ ما الذي یمكن أن نضیفه لنزار ونهاد؟ تأخذنا بیعة القرن إلى بیعة قرار الغائب (وهو قرار أصدرته حكومة الاحتلال لیشمل بیوت الفلسطینیین الذین خلفوا ورائهم ممتلكاتهم، هؤلاء ألهموا شاعراً فلسطیناً هو راشد حسین الذي أبدع قصیدة صارخة یبرز فیها كیف أن قرار الضم لم یشمل البیوت فقط ولا المفاتیح ولا الذاكرة ولا حنظلة، بل شمل ما هو أسمى من ذلك وهو بیوت العبادة، بیوت اﷲ عزّ وجلّ. ألیس جدیراً بنا أن نتوقف عند ملمح صغیر من قصیدته التي شدت بها فنانة راحلة هي ریم البنا؟ وفي سیاقها یقول الشاعر: "صادر إذن حتى بساط المسجد، وبع الكنیسة فهي من أملاكه، وبع المؤذن في المزاد الأسود… حتى یتامانا أبوهم غائبٌ، صادر یتامانا إذن یا سیدي".
مروان صواف، فجر الأول من مارس، آذار، ٢٠٢٠،
سان لوران مونتریال لمجلة أیام كندیة