آلام الغربة بين الشاهد والشهيد بقلم الإعلامي القدير الأستاذ مروان صواف

آلام الغربة بين الشاهد والشهيد

في تزامنٍ ملفتٍ ومثير وفيما كنت أقرأ الكثير عن واقعة المواطن الفلسطيني محمد بو مرزوق والذي يبلغ من العمر تسعةً وثلاثين عاماً وقد تعرض لاعتداء آثم على مرأى من عائلته و من قبل مجرميّن اثنين، لم يلبث القضاء إلا أن أفرج عنهما إفراجاً مشروطاً والأب الضحية غارق في غيبوبته التي تنذر بأمرٍ في منتهى الخطورة.

في هذا الوقت أخذت أقرأ عن خبرٍ مفاده: أن الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما عازمٌ مع زوجته على تأسيس وإطلاق شركةٍ لإنتاج الأفلام والأعمال الوثائقية، وأخذت أتساءل: من الذي يوّثق لأحداث جسيمة يحياها من يلوذ بدول الغرب ودول أميركا الشمالية؟ بل من الذي يوّثق لأحداثٍ ولإعصارٍ يهز العالم سياسياً واجتماعياً واقتصادياً؟ أتراه من كان ضالعاً في القرار السياسي و بتحديد مصير شعب أم تراه الضحية التي وقع عليها الجرم؟ وقد يكون من المثير أن يتوقف المرء عند توثيق آخر أقدم عليه صانع قرار ثانٍ في الدولة ذاتها جاء إلى الحكم بعد رحيل باراك أوباما. يستوقفك ما أطلقه صاحب أعلى سلطة من وصف لأحد الأطياف العرقية:

"إن ذاك الطيف مقرف"، استخدمت الكلمة بشكل مباشر ومثير للإشمئزاز، هل هذا نوعٌ آخر من التوثيق؟ ثم ماذا لو أقدم هذا الرجل بدوره على إشادة مؤسسة وثائقية أخرى في يوم من الأيام؟ هل يصنف أبناء مجتمعه بهذه الطريقة، وأليس من حقنا في حال كهذه أن نتعامل بالشك المريب مع وثيقة كهذه . ربما بدا السؤال أكثر شمولاً مما نتصور: هل نأخذ بوثيقة السياسي وقد غادر منصبه وانتهت ولايته في واقعةٍ ما؟ أم نأخذ بشهادة من وقع عليه الفعل؟ السياسي أم الإعلامي؟ أوباما بمؤسسته أم ألكس هيلي الكاتب الذي أبدع رواية جذور وذهب عميقاً في التاريخ باحثاً عن أجداده فيما عرف لدينا مأساة كونتا كينتي؟ من ؟! عصا شارل ديغول أم ريشة الكاتب الوجودي بول سارتر؟ أم هل هي أدوار الكبير ايفان بوتان الذي عرف بأفلامه السياسية كفيلم زد وفيلم الإعتراف؟ مغرمٌ لعلي بتبني هذا النوع من الأسئلة المتوالية وفيما إذا كنت ألوذ بشهادة كاتب الوثيقة في زلزال العراق توني بلير رئيس الوزراء البريطاني في ذاك الوقت، أم بواقعة منتظر الزيدي الذي قذف حذاءه في وجه رمز أعتى قوة في العالم؟

أبحث عن مرجعٍ دقيقٍ وأنا متأثر وبعمق بتلك الدعوة التي أطلقها فريقٌ من اللاجئين العرب المقيمين في كندا لحضور الجلسة التي سيُحاكم فيها المجرمان المتهمان بالاعتداء على المجني عليه محمد بو مرزوق والذين نالا حق إطلاق سراح مشروط. بغض النظر عن هذا الفيض من الأسئلة التي أتاحها خبر إنشاء المؤسسة الوثائقية بإدارة الرئيس الأسبق أوباما، أود الذهاب إلى عمق المأساة التي يحياها في كثير من الأحيان عدد من اللاجئين في غربتهم المرّة وتشغلني أيضاً أسئلة كثيرة: كيف لإنسانٍ مهمشٍ وفقيرٍ أن يقدم على قتل أو ايذاء إنسانٍ مهمشٍ وفقيرٍ مثله؟

إن الأمر عصي على التخيل بأن يمارس حفيد الكاتب ألكس هيلي (وهو حفيد شخصٍ مهاجر) ظلماً بحق أسيرٍ في الغربة. السؤال عام ولا أقصد به تحديداً محمد بو مرزوق شفاه الله.. كيف لإنسان ذاق مرارة قوارب الموت يوم غادر وطنه أن يعتدي على إنسانٍ شهد الرحلة المريعة في القوارب ذاتها؟ كان بإمكاني أن أسترسل بالأسئلة أكثر قبل أن أذكر عقدة الإسلاموفوبيا أي عقدة الخوف من الإسلام والتي تدفع معتدياً آثماً الى ركل شابة مسلمة محجبة من أعلى سلم المترو كما حدث في إحدى محطات القطار في ألمانيا..

لا أعرف جواباً دقيقاً عن سؤالي عن الشهادة المعتمدة في رواية الأحداث التي تعصف بالغريب ولكني أعي تماماً ما قصدته باحثة عربية أخذت تتحدث منذ أيام عن الفارق المؤثر والملفت بين أسلمة السياسة وتسيس الإسلام، المرء مطالبٌ هنا بذكر اسم الباحثة لأمانة المعلومة وهي السيدة هالة الوردي والتي ربما كثفت المعنى برمته وهي تحدد الفارق بهذه الدقة. ولكنّي أستطيع القول بالمجمل وبحكم ذاتي صرف إن شهادة الفنان أكثر بلاغةً من شهادة السياسي، فمهما قرأت عن ظلم لحق بمتهم بريء لن أكون قادراً على توصيف الألم سياسياً كما ألمسه ابداعياً وفنياً. تُلح على الذاكرة مشاهد كثيرة ومنها مشهد النهاية من مسرحية الأخوين رحباني لولو و التي دفعت خمسة عشر عاماً سجناً لجريمة لم ترتكبها فوقفت تعلن صرختها: "العدالة كرتون..الحرية كذب.. صار الحبس كبير..وكل حكم بالأرض باطل.. حلّو يطلع الضو".

يبحث الناس عادة عن أمثلة كثيرة لتوثيق معاناة من اغترب ولكن أي وثيقة سياسية ترقى لكلمات الشاعر جمال بخيت (شاعر اللغة المحكية) في شريط بعنوان لم الشمل؟ أذكر كلمات الأغنية المعنونة باسم ما تغربناش والتي تقول: "ما تغربناش وتقولي قدر، ما ما اتوهناش في مواني سفر، ح تجيبي منين زينا عشاق، في قلوبنا حصاد في عنينا مطر". ألا ينطق جمال بخيت بما يعتلج في صدر وعقل كل غريب أصابه ما أصاب محمد بو مرزوق؟ لكني رغم هذه الندهة التي شدى بها الفنان علي الحجار -في لحن آسر لفاروق الشرنوبي- رغم كونها تمس القلب وتمسك بنبضاته، إلا أن عقلنا هناك مع ذاك الشاب العربي الفلسطيني الذي كاد يلفظ أنفاسه الأخيرة غريباً عن وطنه بينما المعتديان طليقان وبشكل مشروط ويا لها من شروط..

كتبها مروان صواف فجر الأول من شباط ٢٠٢٠ لمجلة أيام كندية.

مواضيع ذات صلة