- قصة رقم ٦
لم تستطع أن تقاوم رغبة الخروج من البيت.
كانت الرغبة تعصف بنفسك وتزين لك الدنيا خارج البيت، وتحشد الصور السندبادية المليئة بالعجائب والمفاتن. إنها رغبتك بأن تثري عالمك الصغير بعدما أضحتْ شرفة البيت عاجزة عن إثارتك.
ألم تتسلق ذات يوم السلم الخشبي الذي يركن في فناء البيت لتشرف على آفاق بعيدة فاتنة وأشجار كثيفة وجبل تنتهي إليه تلك البيوت المتعانقة، وتجد أن العالم أكبر بكثير مما كنت تتصور.
ها أنتَ الآن تطل برأسك من خلف الباب، فتناسم نفسك رغبة بأن تخرج وتسير. وتلقى عالماً يبهرك، يثير مكامن الفضول في أعماقك، يحطم إسار مرحلة طفولية آن رحيلها.
لو تدري كم أنتَ بحاجة إلى هذه التجربة التي لا تخلو من خطر؛ إلى أن تدع ساقيك تسيران على غير هدى، وتتيه في دنيا الله الواسعة. في البداية ستكون مغموراً بنشوة الاكتشاف، لا تدري أين تقودك قدماك، ولكن عندما تتكرر الأشياء من حولك وتفقد بريق الاكتشاف وينتابك التعب فإن مكامن الفضول ستطفو من أعماقك جوفاء، حينها ستدرك أنك أمسيت بعيداً عن البيت، عن المكان الأليف الذي يغدو العالم من دونه موحشاً.
ها أنت تفعلها، تنطلق في شيء من الحذر وكثير من الجرأة. تنظر إلى هذا العالم الكبير من حولك الذي ستنفض بعد اليوم الكثير من غموضه. إنه أكبر بكثير مما كنت تتصور، وكلما سرتَ فأنت ملاق ما يذهلك: الطرقات والعربات وبائعي الحلوى.
ما ألذ هذه الأطعمة. وهذا الحمار الذي يحمل أثقاله ما أتعسه. تجري خلفه فينهرك ممتطيه. لا عليك.. هم دائماً هكذا مع الصغار.
الآن يتعين عليك أن تغير طريقك لأنه ينتهي بك إلى حقول موحلة في هذا الفصل من السنة. سر في ذاك الطريق فإنه مفض بك إلى ما سيكون قمة اكتشافك اليوم. إنه نهر (العاصي) الذي طالما رسمته بأقلام التلوين الخشبية. كنتَ تُجري مياهه الزرقاء في منتصف اللوحة ثم تغيبه وراء ذينك الجبلين الهرمين اللذين تطل من بينهما الشمس الذهبية. ومن اليوم فصاعداً سوف ترسم النهر برؤية جديدة، بألوان جديدة. سوف تراه وتحبه وتقف أمامه طويلا ترقب بكثير من الدهشة واللذة مياهه المنسابة بوقار ورهبة.
تضع يديك في جيبي سروالك وقدماك تسيران على غير هدى على طول ذاك الطريق الذي يفضي إلى النهر. لقد اختفت الدكاكين من حولك الآن ولم يعد الطريق مزدحماً كما كان في بدايته، وثمة ما هو جديد تلقاه عيناك. إنه المدى الواسع الثري بمعالمه الضخمة. الجبل والغيوم والأشجار والنهر الذي ستلقاه بعد قليل.
تلذك نسمة منعشة تلامس بشرتك الرقيقة وتداعب خصلات شعرك السوداء الناعمة. وها أنت بدأت تدرك بأن غياب الزحمة والضجيج وحلول الهدوء والخضرة معناه أنك جعلت تغوص أكثر فأكثر في مشارف المدينة. ولكن ما هذا الصوت الذي يتناهى إليك من بعيد؟ يريبك أنه يشبه صوت خوار بقرة. ها قد بدأت تدرك أنك خرجت بعيداً عن عالمك الأليف، تلتفت إلى الخلف.. إلى الدرب الذي قطعت.. فلا تجد إلا الصمت وذاك الخوار الذي ينسل من أعماق البعد ليفترس مسامعك.
تقاوم رغبة البكاء. رغبة لا تقل وطأة عن رغبتك في الخروج من البيت. فلقد أدركت لتوك أنك قد تهت، وما وراء التيه إلا كل ما في المخيلة من صور الخوف.
تسير.. ولكنك هذه المرة لا تأبه للاكتشاف. لا تريد أن تكتشف شيئاً الآن. كل ما تريده هو أن تعود إلى البيت، إلى أمك وأخوتك وشرفتك الأليفة.
يقترب صوت الخوار أكثر فأكثر إلى أن تجد نفسك أمام نواعير ضخمة عتيقة تدور ببطء وترفع المياه. هو ذا نهر (العاصي).
ألا تقترب منه؟
أترى كم هو مذهل وبديع؟
آه.. لو لم تكن مغموراً بشعور التيه والخوف من ألا تعود إلى بيتك وأمك وعالمك الأليف لكانت رؤيتك أكثر روعة عما تراه الآن.
لقد انقضى ذلك النهار، وانتهت التجربة، وهاهي ذي يد حنونة من ذاك العالم الأليف تقبض على يدك وتعود بك إلى البيت.
فرحتَ لعودتك للبيت وفرح الجميع. ولأول مرة تلمح في عيني أمك الدامعتين نظرة لم تألفها من قبل.. نظرة غريبة هي مزيج من الفرح العظيم واللوم العظيم. لهذا السبب كانت تنهرك وتضمك إلى صدرها وهي تبكي.*
▪︎"تكوينات".. مجموعة قصصية كتبها القاص الأستاذ محمد صباح الحواصلي/ أيام كندية، ونُشرت في ١٠ نوفمبر ٢٠٢٠