كان يا مكان....في قديم الزمان...كان هناك وفد أوفدته سورية إلى باريس عام 1936... ليناضل في عاصمة الانتداب لأجل استقلال بلاده.... سافر الوفد ترعاه عناية الله.... وقد علق عليه السوريون آمالهم جميعها.... وما أن هبط وفد الاستقلال السوري أرض باريس حتى حرص على زيارة صرح الجندي المجهول.... فوضع رئيس الوفد السيد هاشم الأتاسي إكليل الزهور على الضريح... ووقف باقي الوفد ينظر بكل صمت واحترام.... والمندوب الفرنسي معهم... وسرعان ما تحلق الشعب الفرنسي حولهم... يرقب هذا الوفد الذي أتى من أرض بعيدة... بعين الدهشة والإعجاب.... هذا هو وفد سورية إذن....وفد وصل فرنسا من أرض تحتلها فرنسا... انتدبت عليها بحجة تهذيبها.... بحجة أن تتعهدها بتعليمها الحضارة... احتلت فرنسا مهدَ الحضارات بحجة الوصاية عليها! ها هو وفد تلك البلاد... يعبر عن أسمى حضارة عرفها التاريخ.... أمام ضريح الجندي المجهول.... وقد يقول القائل: عجبا لهذا الوفد!! ماله وما للجندي الفرنسي المجهول؟؟ ألم تكن فرنسا بلد الاحتلال؟ ألم يُسقَ أعضاء هذا الوفد من كأس شرها.... ألم يُنفَ العديد من أعضائه في فترة من الفترات إلى جزيرة أرواد؟ ألم يكونوا هم من قادوا النضال السياسي... وفرنسا تراوغ... فما أن تسمح لهم بكتابة دستور حتى تبطل مواده التي تنص على استقلال البلاد؟.... وما أن تترك لهم أن يشكلوا برلمانا منتخبا حتى تقوم بتعطيله كما تشاء؟... ألم يكن أعضاء هذا الوفد هم من قادوا النضال الثوري... فأذاقتهم فرنسا الأمرين مدة ستة عشر عاما متوالية.... قبل أن تسمح لهم أخيرا بإيفاد وفدهم لينتزع منها حرية بلاده؟؟ فما لهم وما للجندي الفرنسي المجهول؟ ألم يكن جنود فرنسا هم من يجوس أرض الوطن مفسدا فيه؟ لعله مجرد بروتوكول.... مجرد تقليد... لا بل هو أعظم من هذا... صرح الجندي المجهول رمز لكل جندي بذل أغلى ما عنده لأجل بلاده... قضى حتفه دفاعا عن حريتها... عن استقلالها.... عن سلامة ترابها.... وقف الوفد السوري يرفع التحية لهذا الجندي، وإن كان فرنسيا... وإن كانت بلده هي بلد الانتداب... أمام الفرنسيين....حتى تعرف فرنسا قبل أن تجلس إلى ذلك الوفد على طاولة المفاوضات... أن من يقف احتراما لجنديها المجهول... كل شعبه على استعداد أن يكون جنديا مجهولا... لأجل استقلال سورية وحريتها.... وفد سورية، إذن، إذ عرج على ضريح الجندي المجهول، فإنه في الحقيقة يرسل رسالة رمزية إلى فرنسا: أن هبينا حريتنا... أو تأهبي، فبلادنا مستعدة ان تملأ أرضها برفات جنودها المجهولين.... وينتزع الوفد معاهدة الاستقلال... ويعود بها إلى وطنه منتشيا بحرية موعودة.... وتتلقاه الجموع السورية بفرحة عارمة... وسرعان ما تراوغ فرنسا تارة أخرى... فتعود عن معاهدتها... وتنتزع لواء الاسكندرون من سورية لتعطيه لتركية.... فيستقيل رئيس البلاد احتجاجا... وقد كان هو رئيس الوفد الذي عاد بتلك المعاهدة وذلك الوعد.... أفرنسا جاءت تعلم سورية الحضارة؟ أم أن العكس هو الصحيح؟
وتمر تسع سنوات منذ أن رحل الوفد السوري إلى باريس ووقف أمام جنديها المجهول... تمر وفرنسا ما زالت تحتل البلاد وتراوغ... يأتي عام 1945 بعد هذه السنوات... فترسل سورية أحد أعضاء وفد الاستقلال رئيسا لوفد سوري جديد إلى عصبة الأمم....ترسل فخرها فارس بك الخوري... الذي سبق له أن وقف أمام ذلك الجندي المجهول قبل تسع سنوات... ليعرض قضية سورية على عصبة الأمم في جلسة خصصت لذلك... يدخل الوفد السوري قاعة الجلسة... فيتجه الخوري إلى المقعد الذي خصص لسفير فرنسا... فيجلس فيه.... ويدخل سفير فرنسا ليجد فارس بك وقد أخذ مكانه... يسود القاعة فجأة صمت عميق... ما سيكون من أمر هذا يا ترى... يقف السفير الفرنسي بادئ ذي بدء صابرا ينتظر شغور مقعده من مندوب سورية... لعل فارس سورية، وشاعرها، وأكبر مثقفيها...وأديبها بالعربية والفرنسية... لعله لم يقرأ اللافتة العريضة التي وضعت أمام المقعد.... والتي كتب عليها : "سفير فرنسا" وتمر دقائق وييدأ صبر المندوب الفرنسي بالنفاذ.... فيطلب لطفا من الفارس أن يتنحى ويذهب إلى كرسيه.... ويتجاهله فارسنا... وهو ينظر في ساعة جيب أخرجها لتوه من جيب معطفه الجميل... وتمر دقائق أخرى... فيطوش صواب سفير فرنسا... وتعلو نبرة صوته... وتصيبها رجفة وغصة... ويجعل يرغي... يريد استعادة مقعده... وفارسنا يتجاهله، وهو يتطلع في ساعة معطفه بين الفينة والأخرى... ببرودة أعصاب.... انقضت خمس وعشرون دقيقة من صمت رهيب...لم يمزقه إلا صوت السفير الفرنسي الذي ارتعد غضبا.... وكأن كرامته وكرامة بلده أهينتا... بينما نظر سفراء العالم وقد عقدت ألسنتهم الدهشة.... انقضت خمس وعشرون دقيقة على ساعة الخوري.... فينهض الفارس من مجلسه بكل هدوء... وينظر إلى نظيره الفرنسي مبتسما... على مرأى ومسمع من جميع الأمم...فيخاطبه بكل أدب وتهذيب... بلغة فرنسية عذبة... قائلا: "يا سعادة السفير... جلستُ في مكانك خمسا وعشرين دقيقة... فلم تطق صبرا... بينما جاس جنودكم في بلادي خمسا وعشرين سنة.. ونحن نتحمل... فمتى يا سعادة السفير يجلو جنودكم عن بلادنا؟" ها هو وفد سورية مرة أخرى... أمام العالم أجمع... يلجأ للرمزية.... فيعلّم فرنسا، التي كان من المفروض أن تكون هي معلمته... الحضارة... ويلقنها درسا لن تنساه في الدهاء السياسي.... في هذه الجلسة حصلت سورية على استقلالها بعد تصويت الأمم المتحدة.
إعداد: ضياء الأتاسي
أيام كندية