ما أحوجنا اليوم، في الوطن كما في المهجر، إلى التخطيط العلمي والمنهجي بديلا عن استخدام النصوص الجاهزة والعبارات الطنانة.
قليلا ما نقترب خلال قراءاتنا ومطالعاتنا لمقالات أو دراسات أو أبحاث إلا ونرى ذلك الاحتشاد المبالغ فيه (استشهاداً واستحضاراً) لنصوص قديمة تحمل الكثير من القيم المعيارية والأخلاقية والوطنية والقومية، لدرجة يكاد يعتقد فيها المرء أن الخروج من الواقع المأساوي والمرير الذي نعيشه حاضرا لا يستلزم الا التذكير بإنجازات الماضي الغابر لإحداث النقلة المطلوبة باتجاه المستقبل. وانطلاقا من هذه القاعدة "الذهبية"، درج عدد كبير من الكتاب والمثقفين العرب في الوطن والمغتربات على حشو النصوص وتزيينها بمواد تراثية مستقاة من ينابيع الكتب الدينية والسياسية والاجتماعية والقومية وتتصدرها غالبا أسماء لامعة في قدوتها وعطاءاتها وإنجازاتها في العلم والدين كذلك في السياسة والاجتماع.
يسود الاعتقاد سهواً أو عمداً في تقديري الى الأسباب التالية:
أولا: الحضور البالغ الأثر للنص الديني الذي استطاع الصمود لقرون طوال في قعر الوعي الجماعي للإنسان بشكل عام.
ثانيا: الاعجاب الكبير والمحق بالانجازات العربية في حقول الطب والفلك والرياضيات والهندسة وسوى ذلك.
ثالثا: الرغبة العميقة في استحضار النصوص الوطنية والقومية في الخطب والمقالات والدراسات واستخدامها كمواد للتحريض السياسي والتعبوي.
من المفيد الاسراع الى القول أن لا ضير في ذلك على الاطلاق خاصة اذا كان الهدف المباشر من ذلك جسر الماضي بالحاضر وعدم القطع مع المواد التراثية باعتبارها الخزان المعرفي الذي تغرف الشعوب من معينه للتواصل مع حاضرها ولرسم معالم مستقبلها. غير أن ما اصطلح بتسميته "الوقوف على الأطلال" و "عقد حلقات الذكر" على الماضي الغابر والاكتفاء بالاستشهاد والتذكير والاستحضار (أعني بالنصوص)، لن يقدم مخرجا للواقع المتعثر والمعقد الذي نعيشه اليوم.
إن أوجه الشبه كثيرة بين معظم الكتابات التي تنتشر على نطاق واسع، وهي تتوزع على المنابر والمقالات الصحفية حينا، وتنفلش على مساحات من الدراسات والأبحاث وفي بطون الكتب احيانا اخرى.
لعل في اختيار بعض النماذج ما يلقي مزيداً من الضوء:
اولاً: في الدين، وما نشهده من استحضار مبالغ فيه بضرورة العودة الى النص الديني في مسائل الخلافة والسياسة والأحوال الشخصية والحكم والفقه والفتاوى ومرجعية بيت المال لإدارة شؤؤن الاقتصاد.
ثانيا: في العلم، وما ينطوي عليه هذا الملف من إنجازات في ميادين المعرفة، كالتذكير بالخوارزمي في عالم الرياضيات، وابن سينا كمرجعية في عالم الطب، وآخرين برعوا في مجالات الفيزياء والكيمياء والفلك والهندسة.
ثالثا: في السياسة والأدبيات القومية، حدث ولا حرج، حيث تحتشد النصوص السياسية بكل اشكال الدعوة للعودة الى "الأصول" و"الجذور" و"الينابيع" وذلك رغبة في الحد من الصراعات على السلطة أو ضبطا لإيقاع العازفين المنفردين الذين يحملون عادة مشاريع للتغيير وأفكاراً للإصلاح وعناوين خارجة عن المتعارف عليه في الرؤية والبرنامج كما في الادارة والتخطيط.
ولعل أوجه الشبه في ما تقدم هو ذلك الحنين للاتكاء على وسادة النص باعتباره المرجعية القادرة على الاستنهاض والخروج من الكبوة التي يختمر بها الواقع على عدد كبير من مفاصله الحافلة عادة بسائر أشكال التعقيد والتناقض.
أما خطورة هذا الأمر فتكمن في أسباب كثيرة أهمها:
أولاً: الاستقالة الطوعية عن مواجهة الواقع وما يمليه ذلك من قراءة وتحليل، من دراسات وأبحاث، من تخطيط وتمويل، بكلمات أخرى، بضرورة إنتاج الأدوات المعرفية الآيلة الى صياغة المشاريع المرحلية والستراتيجية الخاضعة لأدوات المحاسبة والمراقبة والقياس والتقييم الدوري.
ثانياً: الارتهان المطلق لـ "نظرية المؤامرة" باعتبار أن ما يحدث في المنطقة ومحيطها وكذلك في اجزاء أخرى من العالم، خاضع لغرف سوداء خارجية ذات إمكانيات وقدرات عسكرية وسياسية واقتصادية لا يمكن مقاومتها. هذا الأمر يستمد قراءته من الاصرار على تغييب المصالح والتحالفات الدولية باعتبارها معطى واقعي تحركه ديناميات ذات علاقة وثيقة بالمصالح الوطنية والقومية "للقوى المهيمنة" وأن المواجهة مع هذه المصالح تفترض بناء منظومة دفاعية في الأمن والسياسة والاقتصاد والثقافة "للقوى التابعة" تعتمد بشكل رئيسي على قواها الذاتية بالدرجة الأولى وتبدي استعداداً لقراءة الواقع بما يختزنه من تنافر وتضارب في المصالح تتحكم برغبات الناس وخياراتها.
ثالثا: التنصل من تحمل المسؤولية الناجمة عن التعثر القائم في البنى الاقتصادية والثقافية والاجتماعية ناهيك بالفساد المستشري في القطاعات كافةً، مضافاً الى ذلك معيقات التنمية البشرية التي عادة ما تصطدم بالبنى الموروثة الطائفية والدينية والإقطاعية وما شابه، بحيث تتحول هذه العناصر الى انكفاءات واحباطات وخيبات تدفع الى إلقاء اللوم على "الآخر" أو "الخارج" وجذبه الى حلبة السجال وتحميله تبعات الأزمة، وذلك بديلا عن التصدي لها وتنكب المسؤولية الكاملة في اجتراح الحلول الناجعة لمعالجتها.
اختصاراً يمكن القول، إن استحضار النصوص الجاهزة والعبارات الطنانة وما أكثرها في جعب الكثيرين ممن يساهمون في صناعة الرأي، لن يكون بإمكانه ان يقدم حلولا لمشاكل معقدة، مزمنة ومستعصية، إضافة لكونه لن يزوّد أياً من القوى المتنطحة لرفع مشعل التغيير بأي من الأدوات المعرفية اللازمة لفهم واقعها أولاً ولبناء منظومة التغيير المنشود ثانيا.
لقد آن الأوان في اعتقادي لإعادة النظر بأدواتنا المعرفية في محاولة لاستيعاب الوقائع الجديدة والمستجدة وتوسيع حلقات ودوائر النقاش حول التحديات التي تواجهنا وطناً ومغترباً وبالتالي استنباط الخطط والمشاريع القادرة على القيام بدورنا المطلوب في سياق المشاركة المدنية الواسعة داخل الأطر القانونية الناظمة.