ماذا لو كان أصل الوجود هو اللون؟

ماذا لو كان أصل الوجود هو اللون؟
"باليتا" ... ملحمة لونيّة من تأليف د. مأمون علواني
دمشق - عامر فؤاد عامر

يذهب بنا كتاب "باليتا" في رحلةٍ لونيّة مدهشة ومتناغمة، حيث سخّر المؤلّف والفنان التشكيلي مأمون علواني الألوان في فرضيّة استوحاها من خاصيّة كلّ لون، وعلاقته بالحياة وتكويناتها، فكان اللون الأصفر للشمس والصحراء، والأزرق للسماء والبحر، والأخضر للشجر والنبات، وبعدها بدأت اللعبة بين أقوامٍ اعتمدت على اللون مادّة أساسيّة في طريقة وجودها.
تقع الحرب بين الملك صفراوي وامبراطوريّة الزّرقاويين، لكنها ليس الحرب التي نألفها في عالم البشر المتوحّش، إنها حربٌ من نوعٍ خاصّ، مساحة في الخلق والتكوين، وكأن الألوان تتصارع لتنتج مخلوقاتٍ متجددة، وتظهر لنا ألوان أخرى جديدة من ضياء القمر، وإشعاع الزمرّد، وظلال المخلوقات في الليل، فهذه هي حرب عالم اللون، وتعني التجربة الخلّاقة، ومحبّة الحياة، والشغف بالحبّ، وها هي الكائنات الملوّنة تتزاوج، وتكسر القواعد والأعراف التي ربيت عليها أقوامها، لتقول: "إنّ لكلّ قاعدةٍ استثنائاتها"، فنمضي بالحبّ ونجد سلسلة متعدّدة من اللون اللا منتهي.
الكتاب يحمل خيالاتٍ ممتعة، لا تدع القارئ يُفلت من أمنيةٍ بينه وبين نفسه، وكأنه يهرب في ساعة المطالعة ليشكو لنفسه بؤس البشريّة، الذي أنتجت البشاعة، فلا وجود للدّمار هنا، ولا للعنصريّة، ولا للتعصب والشوفينيّة، فالهويّة هي اللون والاعتزاز به، وكأن الوجود الكوني مؤلّفٌ من شعاعٍ ممتزج بجميع الألوان الواهبة للتجدّد، وتمضي بالفرد نحو رحلةٍ بهدف، واتجاهٍ يحمل ضوابط من دون أن تكون عبئاً مرهقاً عليها، فيتمنى القارئ لو أن إنسان اليوم هو من أنسنة هذا الكتاب.
لا بدّ من التذكير بأن التجربة في كتابة مؤلّفٍ عن الألوان تُعدُّ نادرةً عبر تاريخ الكتاب، منذ بدايته وحتى تاريخنا، وإن نظرنا نظرة بحثٍ واستكشاف لوجدنا أن مؤلّفات خاصّة بعلم اللون لم تتجاوز أصابع اليدّ الواحدة على مدار التاريخ، ومؤلّف الكتاب هنا الدّكتور مأمون علواني تُحسب له هذه التجربة، فهو من القلائل على مستوى العالم والوطن العربي ممن فكروا بهذه الطريقة وكتب بهذا الأسلوب، وحبّذا لو أنه استطرد في الشرح أكثر، وقدّم المزيد من هذه المغامرات في اللعب بين ممثليها من الألوان وحكاياتها، إذّ يحق لهكذا مادّة أن تستوفي المزيد من الشرح والإغراق في التنافس بين جوانبها وشخصيّاتها.
يقع الكتاب في مائة وأربعة وعشرين صفحة من القطع الوسط ضمن أربعة فصل تروي حكاية الألوان، والوجود، وعلاقتها ببعضها البعض، وتشخيص كلّ واحدٍ منها وتوصيفه ككائنٍ مألوف بالنسبة لنا، لكنه متفوّق الوعي في فهمه للحياة، ومن الملفت أن المؤلّف قد وضع "باليتا" باللغة الإيطاليّة أوّلاً ثم تمّت الترجمة للعربيّة فيما بعد، مع لوحاتٍ تشكيليّة عُرف بها د. "علواني" كان للدّائرة حضور أساسي فيها مع تقاطعاتها للقوس ومحيطاتٍ أخرى، وكأن لغة التكوين الكوكبيّة حاضرة دائماً مع الألوان الخاصّة التي يعتمدها في كلّ لوحة، وبؤبؤ عينٍ يراقب من دون حرج.
يعترف المؤلّف في نهاية "باليتا" أنه كان يغطّ في قيلولة غير متوقعة، داهمته أثناء رسمه لإحدى اللوحات، فيستيقظ منها ورأسه قد تداخل مع ألوانٍ كان يضعها من لوحة الألوان التي يضعها في يده، وهي التي تُدعى "باليتا" باللغة الإيطاليّة، فكانت الرّحلة المدهشة التي وضعنا فيها حلمٌ عاشه مع شخصيّات الملحمة اللونيّة، ورأى فيها ملكات وملوك الألوان يخاطبون بعضهم البعض، وينسجمون من أجل خلق عالمٍ متجدّد من السلام، والحبّ، والفنّ.


 

مواضيع ذات صلة