الموثق والباحث "جمال مهنا" لـ"أيام كندية": الزراعة ثقافة صدّرها إنسان الجنوب السوري للعالم
قراءة كتب التاريخ كانت دافعاً لمشروع التوثيق
عامر فؤاد عامر - دمشق
"كلّ صخرة هي حرف، وكلّ بحيرة هي عبارة، وكلّ مدينة هي وقفة.
فوق كلّ مقطعٍ وفوق كلّ صفحةٍ لي هناك دائماً شيءٌ من ظلال السحب أو زبد البحر".
هذه الكلمات التي سطّرها "فكتور هوغو" تلامس زائر متحف الباحث والموثّق "جمال مهنا"، الذي اقتطع من بيته مساحةً وافيةً لتحتل مجموعة كبيرة من الوثائق التاريخيّة، والقطع التراثيّة، والصور القديمة، والمقتنينات الأثريّة وغيرها، لتحتلّ كلّ واحدةٍ منها مكانها معلنةً حكايةً مغرقةً في الأثر وذات مغزى عميق في حياة البشر، لا سيّما الأهالي في منطقة الجنوب السوري.
جمال مهنا الذي منح جلّ وقته لهذه الهواية عن شغفٍ واهتمامٍ كبيرين، يصل بعد سنواتٍ من الأرشفة والتوثيق، بمجهوده الفردي لمجهود مؤسسةٍ كاملة، فقرابة خمسة آلاف قطعةٍ تشرح عن نفسها تأريخاً يضجّ بالروايات العتيقة والتفاصيل الملفتة، يسعى اليوم أن يستكمل مشروعه على الرغم من العقبات والصعوبات اليوميّة التي تواجهه، وأثناء زيارتنا له كانت هذه التصريحات التي قدّمها: "قراءة كتب التاريخ المحلّي هي الدّافع الذي جعلني اهتم باحثاً عن الوثائق والمقتنيات الأثريّة، والفكرة الأولى كانت جمعُ قطعة أثرية من كلّ قرية، والقرى في السويداء كثيرة ومتعددة، وعندما علمت الناس بمشروعي بدأت هي بتقديم القطع الأثرية كتذكار من قراهم، فالبعض قدّم فونوغراف، والبعض طوابع، وآخرون وثائق وأدوات تراثيّة، وغيرها، إلى أن وصلت إلى ألف قطعة خلال ست سنوات، بعدها بدأ المشروع يأخذ ملامح أوسع فتجمّعت عندي ألف قطعة أخرى في الأربع سنوات التالية، وبعدها بدأ الرقم بالتزايد، فنجد من بينها النحاسيّات على أنواعها، وأدوات صناعة القهوة المرّة، والزي الشعبي، وأدوات المؤونة التي كانت تُستخدم في كلّ بيت، وأدوات بناء البيوت الحجريّة، وبعض من الأدوات التي استخدمت في ترميم المدينة الأثريّة في شهبا وبواباتها، وأدوات تراثيّة كثيرة، وأدوات قديمة رافقت مستلزمات الحياة على تعدّد الفصول، وحوادث وقصص فنيّة مثل اسطوانة مسجلٌ فيها حديث نادر بين أسمهان وفريد الأطرش، بالإضافة لصور فوتوغرافيّة قديمة جداً مثل رؤساء الجمهوريّة كناظم القدسي وحافظ الأسد أثناء زيارة محافظة السويداء، وشخصيّات بارزة زارت جبل العرب كالشاعر بدوري الجبل، والفنانين سيّد مكاوي، ووديع الصافي، وغيرهما، وهكذا إلى أن يصل عدد المقتنيات لدي بعيداً عن الوثائق والصور إلى قرابة الخمسة آلاف قطعة".
يُعدّ "مهنا" أحد شواهد التوثيق الفردي، ولكنه وعلى الرغم من ذلك يسعى من خلال جمعية العاديات أن يوسع من نشاطه ويحاول من خلال المعارض التي تتاح له في المهرجانات المحليّة سابقاً، وفي المراكز الثقافيّة حالياً أن يُظهر للناس مدى أهميّة التوثيق وضرورته لأنه السبيل الممكن لحفظ تاريخنا القريب والبعيد قبل أن يتمكن مشوهي التاريخ من طمس معالمه الأساسيّة.
وكما أسلفنا أعلاهُ فقد جعل من بيته متحفاً لهذه القطع النادرة والأثريّة، متأقلماً مع الظروف، إلا أن جزءاً من أحلامه أن يبني متحفه الخاصّ، ويشكله بيديه، وعلى الطراز المعماري القديم الذي بنيت به بيوت السويداء القديمة، فهناك الكثير من القطع والتُحف ما زالت في عتمة الأدراج والصناديق، ولا مكان لها للعرض، فالبيت على اتساعه إلا أنه غير مؤهلٍ ليكون متحفاً يحمل شروط عرض وحماية الوثيقة التاريخيّة، والتحفة الأثريّة، والصور الفوتوغرافيّة، وغيرها من النوادر، وعلى الرغم من ذلك يبقى جمال صاحب إصرارٍ مُتقدٍ، وعلى رغبته الكبيرة يمضي. وعن تنوّع الوثيقة وقِدم القطع التي استطاع أن يجمعها ويحافظ عليها يضيف: "لدي وثائق ذات طابع قانوني، وأخرى مرتبطة بعائلات جبل العرب، ووثائق من زمن الانتداب، وطوابع متداولة زمن الدّولة العثمانيّة، وغيرها، أمّا أقدم قطعة فيقدّر عمرها ب 7 آلاف قبل الميلاد، بحسب ما وصلني، وهي عبارة عن محراث يدوي استخدمه سكان المنطقة في حرث الأراضي وزراعتها، وهذا ما يُثبتُ بأن إنسان المنطقة الجنوبيّة هو بالفعل من صدّر الزراعة كثقافةٍ لكلّ شعوب العالم".