كم مضى عليك في عزلتك؟ بضعة أيام؟! كم مرة تذمرت فيها وأردت الخروج إلى العالم الذي عزلت نفسك عنه مرغماً؟
كم مرة تمنيت أن ينتهي ذلك البلاء قريباً لتعود إلى حياتك الطبيعية وإلى تلك الوجوه المألوفة وإلى الأماكن المفضلة لديك؟
كم مرة لعنت ذلك الفيروس الصغير الذي لم يره أحد بعينه المجردة لكنه تمكن من القتل والتعذيب والإيلام حداً يفوق جميع التوقعات؟
ألم يتسلل إلى الجسد بخلسة وبراعة؟ ألم تعجز جميع الأساليب من أقنعة طبية وقفازات وغيرها عن منع انتشاره؟ ألم يجعل الحياة ثمينة في عينيك برغم شعورك بأنها تتسرب من أصابعك؟ ألم يجعلك تتمنى أن تعود إلى حياتك الروتينية المكررة المملة ثانية لأنها حياة خالية من الألم؟ ألم تتمنى أن تعود الآهات إلى صدرك لأنها كانت أنفاس حرة برئتين سليمتين بدون الحاجة إلى جهاز للتنفس؟
وبالرغم من حقدك على ذلك الفيروس غير المرئي والمتجرد من المشاعر الذي جعل العالم بأسره يشعر بضعفه وعجزه ألم تتخيل يوماً بأنه قد يشبهك؟
ماذا لو وقفت مع ذاتك بضعة دقائق فقط وتخيلت نفسك أنك أنت ذلك الفيروس، وسألت ذاتك عن عدد المرّات التي تسللت فيها إلى حياة أحدهم وبالغت في أذيته؟
كم مرة كنت السبب في عزلة أحد ما بسبب آذيتك له بعمق؟ لقد اضطررته لعزل نفسه عن الحياة خوفا من تكرار الأذى الذي لحق به من الاحتكاك مع الآخرين، تعامل معك ببراءة وبعفوية مطلقة ودون أن يأخذ احتياطاته من كونك قد تكون أشد فتكاً به من أية وباء.
تسللت إلى أعماقه وأصبته في نقاط قوته، ودمرت مناعته تجاه الحياة والصعاب، فأصبحت أصغر كلمة قادرة على جعله يغرق في دموعه، وأصغر موقف من مواقف الحياة بإمكانه أن يعيده إلى الوراء ألف عام، وأصغر محنة قادرة على كسره، أنفاسه من الحزن تغدو سكاكيناً تحزّ قلبه، ويبدو الكون بثقله وكأنه مطبق على صدره.
عزل نفسه عن الاخرين مدة من الزمن ربما أشهراً وربما بضع سنوات.
لم يتناول دواء واحداً. كان علاجه الوحيد الصبر والدموع، وبعض الوعود لذاته بألا يجعل من نفسه عرضة مرة أخرى لأولئك الذين يشبهون فيروس كورونا، أي يشبهونك، وعندما شفي أو ادعى بأنه قد شفي خرج من العزلة، واكتشف بأنه بعض الآلام سوف ترافقه طوال حياته، ولن تبرح روحه وجسده، لن يستطيع نسيانك أبدا فالجراح سوف تعيدك إلى ذاكرته كلما زارت جسده.
أصبح بعدك يخشى من كل شيء، لم يعد يصافح أحدا تجنباً للعدوى وخوفاً من أن تعيد أصابعه الشعور إليه فقد بات يخشى عدوى المشاعر.
حين يمشي يبتعد عن الاخرين خطوات عديدة كي لا تصيبه العدوى، يصمت ولا يتكلم مع أحد كي لا تتطاير أنفاسه، وكي لا يسمعون كلماته، لا ينبغي أن يصاب أو يصابون بالعدوى.
كم جلس يراقب العالم بصمت وهو يمضي، يمضي ولا شيء بيده سوى الترقب وانتظاره أن يمضي والعمر وكأنه سجين أو في حجر روحي.
غيرتَ جميع أفكاره وجعلته يخاف من الإقدام على الحياة، جعلته يخاف من الحب والحرية، لقد صنع لنفسه قوقعة أبقته خارج العالم.
أحدهم لم يعد باستطاعته أن يعود إلى حياته السابقة، إلى أماكنه المفضلة وإلى الوجود المعتادة، أحدهم قد تغيرت حياته بسببك إلى الأبد.
بعد بضعة أيام سوف تنتهي عزلة العالم بسبب الكورونا لكن عزلة البعض لن تنته لأن أحدهم كان أسوأ من الفيروس المميت.
ستعود الحياة إلى طبيعتها وتنتهي مهمة الاقنعة الطبية لكن الاقنعة التي كانت سبباً في عزلة الكثيرين لن تنتهي مهمتها، ولسوف تعود لتلتصق بالملامح من جديد.
سيموت البعض وسوف يشفى غيرهم مثلما ماتت مشاعر الكثيرين وشفي غيرهم، لكن المشكلة أن فيروس كورونا يموت بالدواء ويمكن رصده ومحاصرته، أما من يشبهون كورونا فهم أشد فتكا منه، فكيف لنا أن نحاصرهم، وكيف باستطاعتنا القضاء عليهم؟
كوورنا فيروس لا مشاعر لديه ولا يملك عقلاً ليدرك بأنه يقتل ويؤذي من لا ذنب له، لكنك أنت أيها الانسان الذي خلقك الله بعقل وقلب ومدرك لكل أفعالك هل يسعدك حقاً أن تكون وباء لأحد؟
عزلتك الطويلة أو القصيرة اجعلها للتأمل وسل نفسك ألف مرّة: هل آذيت أحداً بما يفوق أذى فيروس كورونا؟ هل فعلت يوماً بأحدهم كما تفعل أخطر الأوبئة في تاريخ البشرية؟
لينا بغدادي
كاتبة وروائية سورية