حديث المشاعر بين الطاغية والشاعر
يأخذني هذا العنوان المألوف ربما لكنه المثير حتماً، يأخذني في البداية إلى روايةٍ وضعها بين يديّ الشاعر العربيّ القدير سفيرنا إلى الشعر والمحافل السياسية في آنٍ معاً، الشاعر الأستاذ عمر أبو ريشة، تقول الرواية: إن ثمة حاكماً أو خليفة اشتُهر بموائده الذي يغدق فيها العطاء للمثقفين والمبدعين، فكان يضع مراتبَ للشعراء المدعوين إلى الوليمة. وتروي الحكاية أن هناك شاعراً مغموراً وجريئاً كان يجلس منزوياً إلى أن يقول له الحاكم: أقبل على الطعام أسوة بغيرك، فيقول الشاعر معتذراً: معذرة أيها الخليفة، أنا لا آكل فضلات الملوك فكيف آكل فضلات الشعراء؟ فيقول له الحاكم: ولكني أمرتك أن تأكل، لكن الشاعر يصرّ على رأيه قائلاً:
معذرة يا أيها الخليفة أنا لا آكل الفتات الذي خلّفه غيري، فيعلن الخليفة غاضباً: اذهب، فلن يروي لك أحدٌ شعراً بعد اليوم. هل يستطيع فعلاً أي حاكمٍ أن يصادر مستقبل مبدعٍ وأن يدّمره بهذا الشكل؟ وتنتهي الرواية بالقول إن إبداع الشاعر انتصر مستقبلاً وعلى المستوى الإنساني كله، حيث روت المراجع الكثير من قصائده التي خلدته إبداعاً رغم إعدامه جسداً. لم يكن الراحل العزيز الأستاذ عمر أبو ريشة وحده الذي يثير الكثير من جوانب هذه العلاقة الملتبسة بين سيف الحاكم وقلم أو ريشة الشاعر: بل إن ثمة قولاً شهيراً وضعه أمامي الشاعر الأستاذ نزار قباني في لقاء راج وبثّ عبر المحطات وعبر منصات التواصل الاجتماعي، فعندما سألته عام ثمانية وثمانين عن قبضة السياف مسرور وقد حاقت بعنق الشاعر أجابني: إن القصيدة التي تخاف سيف السياف مسرور خيرٌ لها أن تغفو وأن تذهب إلى العدم.. أثار كل هذه القضية لديّ خبر بثته محطة ٌ فرنسية تبث بالعربية على مدار يومٍ كامل، والخبر يحكي عن الزعيم النازي أدولف هتلر الذي قيل ورويّ الكثير عن عشقه للحفلات الموسيقية وعروض الباليه ومعارض الزهور.
أيمكن حقاً أن يكون أدولف هتلر مرهف الحس إلى هذه الدرجة؟ من يستطيع أن يتصور الطاغية نيرون مثلاً وهو ينزوي في ركنٍ ويرسم لوحةً عن الحريق الذي أضرمه في روما بأسرها؟ الأمثلة ما أكثرها، ومعظمها يذكّرنا برواية الكاتب البريطاني جورج أورويل التي أبدعها عام ١٩٤٨ وحملت اسم ١٩٨٤ وتوقع من خلالها أن يسود الحكم الشمولي بمعتقلاته، وآثامه، و علاقته الملتبسة مع الحريّة، فهل صدقت نبوءة أورويل وقد مررنا بالزمنين معاً؟ ألسنا نحيا بصورةٍ أو بأخرى زمن الأخ الأكبر الذي يبتسم وهو ينظر اليك برقة فيما حريتك مصادرة، وعاطفة الحب لديك مهانة، حيث التفكير ممنوع، الإبداع ممنوع، والحبُّ كما أسلفنا ممنوع.. كم تبدو حكاية الأخ الأكبر التي ذهب إليها جورج أورويل شائعةً ونابضة حتى في عصرنا إلى درجة أنني أستشهد الآن بلوحةٍ كوميديةٍ آسرة ضاحكة وباكية في آنٍ معاً من مسلسل مرايا للفنان القدير ياسر العظمة.. لوحة مرايا هي عن حكايةِ شابٍ يحلم كثيراً بالحرية، ويعارض في أحلامه الظلم وأحكامه، ويدينُ كل الأفعال الأمنية بتفاصيلها، بالبداهة يُستدعى للأمن ويقال له:
لا يجوز الأمر بهذا الشكل، ونحن نعرف أشياء كثيرة عن أحلامك، ينبغي أن تتغير أحلامك، و ستخضع لإعادة التأهيل من جديد. ثم يستدعى بعد أسابيع لينال الرضى فقد أصبحت أحلامه مشروعة، أصبح يصفق لكل شيء في نومه وضمن أحلامه وفي حاضره وفي يومه، ولكنه يستيقظ ذات ليلة على حلمٍ مرعب فيهتف قائلاً: اللهم اجعله خيراً فقد عادت الأحلام إلى عهدها القديم.. لا شك أن القارئ العزيز يتساءل: وأين الغرابة في أن يكون الظالم مبدعاً روائياً أو فناناً تشكيلياً أو عاشقاً للسهرات الموسيقية؟ لا غرابة في السؤال بالتأكيد، حيث يمكن أن يكون مبدعاً في أشكال الظلم ذاتها تماماً كما كان ذاك الضابط الذي يدير معتقلاً صحراوياً لاستقبال سجناء الرأي وتعذيبهم إلى درجة الموت أحياناً، أين الغرابة في أن يعود إلى بيته ليحتفل باسماً وضاحكاً في عيد ميلاد ابنته مغنياً أمام رفاقها المدعوين وجيرانه وأهله؟
رأيت هذا فعلاً في فيلمٍ عربيٍ شهير حمل اسم البريء ولعب دور البطولة فيه الفنان القدير محمود عبد العزيز مجسداً هذه الازدواجية المرعبة بين الطاغية والأب الحنون، وهي ازدواجية أكثر غرابةً ورعباً من تلك التي عاشها رأفت الهجان في المسلسل الشهير للفنان ذاته.. سأنهي هنا عند مثال البريء للفنان المخرج الذي غادرنا مبكراً الصديق عاطف الطيب رحمه الله ورحم محمود عبد العزيز ورحم الفنان القدير فائق الموهبة أحمد زكي الذي جسد دور العسكري البريء، والذي كان شاهداً على الآثام كلها في المعتقل.. هذه بعض التداعيات لعلاقة الحاكم بالفنان أو الشاعر، بالمبدع عموماً، وكم تثير القصة بمجملها شجوناً وأحزاناً..
مروان صواف.. عشية وداع عامٍ واستقبال آخر، سان لوران مونتريال، مجلة أيام كندية.