قلوب مليئة بالألم والأمل
تتمة لقصة سعاد
" كحال كل القادمين الجدد مررنا بصدمة الواقع، الحلم الكندي الذي كان يجذبنا كمغناطيس يختلف جداً عندما نعيشه. ففي كندا يستغرق تدقيق الشهادات الخارجية وقتاً قد يطول لمدة سنة، وكذلك في بلد البيروقراطية هذه لا تعترف نقابة الأطباء بالشهادات الخارجية، ولكي يصبح زوجي طبيباً يجب أن يعيد دراسة الطب من السنة الأولى، والدراسة غالية والعمر ينقضي. وزوجي ابن العز والحسب والنسب متعود على عيشة الرغد والبيت الواسع. صرف علينا كل ما أحضرناه معنا من النقود دون حسبان أو اقتصاد لأنه ليس متعوداً على عيشة التقشف. أصابتنا الضائقة المالية وتوتر زوجي كثيراً لأنه لا يقبل بمهنة "لا تليق بمقامه". شعر بالعزلة و الوحدة بعد أن كان معروفاً و أصابه الحنين الشديد و الوطان إلى أهله و بلـده.
تغيـر سلوكه بشكل ملحوظ: أصبح عنيفاً دائم الصراخ، مقهور من قدره وغاضب يفرّغ فينا كل الإحباط الذي يحسه. ثم قرر أنه بمجرد أن يكمل الفترة المطلوبة لطلب الجنسية سيعود إلى بغداد. لكن أنا كان لي رأي مخالف تماماً. نحن هربنا من بغداد لسوء الأوضاع الأمنية، كنا نحلم بمستقبل أفضل لأولادنا في مكان آمن وهم الآن يتلقون أحسن تعليم وتوجيه. بالنسبة لزوجي ولي، كحال كل المهاجرين، ممكن أن نعمل بمهن أخرى ليست كما كنا نتمنى لكننا على الأقل نعيش في استقرار وأمان. أنا شخصياً صرت أحب الحياة هنا بعد كل ظروف الحرب والألم التي مررنا بها في العراق، وأعشق هذا البلد التي وجدت فيه الاستقلال الذي كنت أنشده من تسلط أهل زوجي، بالإضافة إلى مزايا أخرى للحياة هنا. " من أنت حتى يكون لك رأي؟ " قال لي زوجي بسخرية في بداية النقاش بهذا الموضوع. - أنا زوجتك وأم أولادك الثلاثة. - أنا الرجل هنا وأنا من يقرر، وأنت تتبعين. مفهوم! - وأنا هنا شريكة حياتك وسندك. - سندي بماذا؟ أنا من أصرف على هذا البيت وأنا سيده - وأنا من كان يعتني بكل فرد في الأسرة، وأنا أيضاً من كرست عمرها لخدمتكم جميعاً ولي رأي. - رأيك ضميه لنفسك. إن أردت أن تبقي هنا فابقي وحدك. - إن أردت السفر فسافر لوحدك.
إذا فقدت رشدك فأنا هنا لأحمي أولادي. تضخمت بيننا المشاكل بعد هذا النقاش، خاصة وأننا نعلم جيداً أن القانون في صفي أنا. صارت لغته معي بذيئة وتطاول عليّ بالضرب كذا مرة. أنا عن نفسي سئمته وسئمت حياة العنف. في البداية شعرت به وبإحباطه، لكن مع كثرة فش الخلق فيّ فقد زوجي كل التعاطف الذي كنت أحسه تجاهه. المشكلة أنه وعندما يكون غاضباً يتلفظ بكلام جارح لا يمكن نسيانه ، و أنا قلبي مثل الزجاج لا يمكن إعادة إلصاقه بعد كسره. لكل شيء حد، وزوجي تجاوز حدوده كثيراً في تجريحي وتعنيفي. " - لكن هل ستستطيعين الاعتناء بأولادك الثلاثة لوحدك هنا؟ سألتها باهتمام. - نعم، سأستفيد من كل الدعم الموجود حالياً، و للمستقبل
- صمتت قليلاً ثم أجابت بإصرار- أنا ممرضة و عندي خبرة و أجيد الفرنسية الآن. سأعاود الدراسة لسنتين ثم أعمل في مجالي وعندئذ سأكسب جيداً. - أتساءل ما هو رأي الأولاد؟ - هم لا يريدون أسرة يتضارب فيها الأب والأم كل كذا يوم. هم ناجحون في دراستهم هنا وينعمون بنوم هانئ ويتمتعون بأنشطة رياضية. باختصار، الأولاد يريدون البقاء معي هنا. هم يحبون والدهم كثيراً ويحتاجونه، لكنهم هم أيضاً مرهقون من حياة المشاكل. بكل الأحوال، لهم أن يروا أباهم متى رغبوا بعد اتمام إجراءات الطلاق. - لماذا اخترت الهروب من المنزل إلى سكن النساء بهذه الطريقة؟ - أنا هنا وحيدة لا أحد لي، وزوجي الذي يفترض أن يكون مصدر الحماية في حياتي هو من يهددني. إلى من ألجأ؟ من من المعارف قد يستقبلني وأولادي الثلاثة؟
لم أجد خيراً من سكن النساء. - أنا أتمنى لك كل خير وأشعر بحزنك وألمك يا سعاد - لن أمضي عمري بالحزن يا هدى فالحياة تستمر. بقدر ما أتألم على أسرة تفككت، بقدر ما أسعد بأنني اتخذت القرار الصحيح من أجلي ومن أجل أولادي. ثم أنني هنا أتلقى جلسات استشارة تعينني على ترميم مشاعري المتصدئة وعلى البداية من جديد. - وماذا لو اعتذر لك زوجك وعاد نادماً؟ ماذا لو قرر البقاء هنا؟ - الناس لا تتغير يا أختاه، والثقة عندما تذهب لا تعود، والود والاحترام هما دعامتا الحياة الزوجية الأساسيتان.
إذا ذهبتا إقرأي السلام على الزواج، ثم إنه لن يمكث هنا طويلاً. أنا أكيدة من ذلك. - بكل الأحوال، تذكري دائماً أنني هنا أختك وصديقتك وسأكون إلى جانبك في حال احتجتني. في هذا الملجأ بالتحديد، اجتمعت بكثير من النساء من كل الأجناس ولكل قصتها، لكني هنا أختار أكثر القصص التي أثرت في وهي لنسوة عرب. تسمى ملاجئ النساء بالمساكن، حيث تجد الهاربات سكناً لأنفسهن الخائفة والخائبة. وتشابه قصص هؤلاء النسوة تلك التي في ألف ليلة وليلة فجميعها لا تكاد تنتهي، وفيها تبرز فكرة العنف الزوجي والبداية الجديدة.
كل مرة أزور فيها صديقتي سعاد ألمح شابة نحيلة جداً تمشي في ممرات البيت، وخلتها انطوائية جداً لأنها لم تكن ترغب في التحدث مع أحد. اسمها سحر وهي من المغرب. ...
يتبع في العدد القادم
بوابة إلى عوالم هي مجموعة يوميات وخواطر جابت في ذهن امرأة سورية هاجرت مع أسرتها للعيش في كندا وعاشت التباين الثقافي والحضاري بين المجتمعين وكذلك صدمة الواقع مقابل الأحلام الوردية التي يعيشها كل طلاب الهجرة إلى القارة الأمريكية، ثم دونتها في كراسة وسكبتها في قالب أدبي يتسم بالصدق والشفافية والموضوعية.