كلّش زين كلّ شيء بخير بقلم الإعلامي القدير أ. مروان صواف

كلّش زين " كلّ شيء بخير " ,,

,, مذ تسنى لي أن أقرأ " الأيام " للدكتور طه حسين ومن ثم دعاء الكروان فثلاثية الأستاذ نجيب محفوط " بين القصرين وقصر الشوق والسكرية " وفي متابعة أولى لم تكن لتتسم بالنضج بكل صدق , وأنا مسكون بهاجس البحث عن يقين ماأقرأ ‘ وماكنت قادراً أصلاً على طرح سؤال اليقين في عمر مبكّر جداً بالكاد يتيح لك أن تتلمس السؤال دون أن تدري , " هل ماأقرؤه ينهل من الذاكرة الحقيقية أم من الذاكرة المشتهاة " , ومذ بدأ الحراك في السنوات الثمان وقد اكتوى جسد البوعزيزي في الحبيبة تونس بنار ثورة الياسمين " وفق التعبير الأثير " وأنت تسائل ذاتك : نار البوعزيزي التي اكتوى الحراك بوهجها أهي وحدها اليقين ؟ طيب وماذا بعد , هل عربة الخضار تلك بكل عذابات صاحبها هي اليقين الوحيد المتفق عليه بكل ماتلاها وقد مثلت الصفعة على وجهه الماً لاحدود له فاق بالتأكيد ألم الإحتراق.

.. أريد أن أدخل لمشهدي الثاني وقد آذنت شمس العمر بالمغيب ، فما بقي اقل وبكثير مما راح راجياً ان أنعم برؤية النور في بلدي , وأريد أن أنهل من فيض الذاكرة مرة أخرى " إنما الذاكرة الحقيقية وليست المشتهاة " بمعنى أن أروي المشهد كما جرى وليس كما أتمنى لو أنه جرى وهذا ماألمسه في عدد غير قليل من المدونات في منصات التواصل الإجتماعي أو غيرها من المنصات ولأناس أعرفهم وعشت ظروفهم والان اقرأ رواياتهم " المشتهاة " لما جرى . تعود هذه الواقعة التي عشت لحظاتها المضنية في غرفة العناية المشددة القصوى إثر جراحة ضارية أولى في القلب المفتوح , 15 تشرين الأول – أكتوبر 2011 , ماأزال أذكر صوت طبيب من بلدي يهتف باسمي وبحنو وهو يوقظني من غيبوبة دامت ساعات ست معرّفاً باسمه "" أنا الطبيب ديمي شماس من سورية " تسمعني لاشك أخي مروان , أرجو أن تساعدني في نزع التيوب من جسدك وأن لاتحاول إمساكه أو انتزاعه بيديك , طبيب عربي وسط طاقم أجنبي , كان ذاك هو الصوت القدير الذي استقبلني للحياة الجديدة بعد جراجة القلب واستبدال شرايينه المصابة بالكامل ولم أكن لأتبين ملامحه الى أن وقف يراقبني بعد ساعات راجياً مني أن أتجاهل الأحداث تماماً دون أي استماع أو متابعة , بحيث أساعدهم في إعادة التأهيل ماأمكن , فقررت الإمتثال لاشك وأنا ماأزال في العناية المشددة التي طالت إقامتي فيها نسبياً إثر حدوث نزف استوجب إرجاعي لغرفة العمليات مرة ثانية لإيقافه ,

ثم بدأ حضور الأحبة يزداد وأنا ماازال في العناية : أطباء شباب من الوطن العربي أتوا للإطمئنان فرحين بالنجاة " ما عرفناك لحظة خروجك من غرفة العمليات والأنابيب تغطي وجهك الى أن قرأنا الإسم ,, الحمد لله على سلامتك " , إلا أن واحداً جاء بعدهم واقترب هامساً : أبوي , أحقاً أنت مروان الذي عرفناه عن بعد فامتثلت باسما ورحبت به فشرّفني بطبع قبلة على جبيني قائلاً " لك عندنا الكثير مروان – استحقاقك كبير – ومايزرعه الإنسان يحصده أبوي , والمفاجئ أنه أخذ يروي قصة توضح قصده بشكل مكثف بلهجته الحبيبة من بادية الشام قال " بالتأكيد وبحكم جيلك عشت معنا احداث أيلول ومجازر عام 1970 في عمّان ، في ذاك الوقت مروان ذاع صيت ضابط أمني كبير عُرِفَ ببطشه وأسهم بقتل الكثيرين وسجنهم وتعذيبهم ، تمضي الأيام وينقل الضابط لعندنا في المستشفى وهو بوضع صحي خطير جداً ومعه توصية من أعلى الرتب في المملكة " من سيدنا " وإذ بالأطباء المناوبين يرفضون الدخول لإنقاذه وعلاجه ألماً وثأراً , والحق أنني ورغم الإجهاد الذي أحس همست كالجريح " لا ياأخ وليد بالله عليك " ؟ قال لي " ماذا - أنت ضدهم فيما فعلوه ؟

’ أنا معهم 100 بالماية أخي مروان , فقلت طبعاً أنا ضد هذا ـ تمنعني أخلاقي ومهنتي ووازعي الديني وتربيتي والقسم الذي أديته كطبيب ؟ قال " إن الحساب برأيي يكون أحياناً في الدنيا قبل حساب رب العالمين في ديار الحق ".. والمشكلة الحقيقية أن معظم من رويتُ لهم الواقعة كرروا العبارة ذاتها " نحن معهم فيما فعلوه وليذق ذاك الرجل طعم العذاب وهو يموت " , بالبداهة - تقول الرواية - دخل أكثر من طبيب بالنهاية بعد تردد لعلاج المصاب الذي قضى تاريخياً فيما بعد إثرنهاية مؤلمة " ولن أذكر اسمه " . جاء ذاك الحوار عن الإستحقاق تمهيداً لانتقالي بعد أيام ثلاثة الى غرفتي لعناق أهلي وقد اذهلهم ان نرى جميعاً على شاشات البث مشهداً دامياً لزعيم عربي تم قتله ، وصورته في اللحظات الأخيرة دامي الوجه يتوسل من حوله الإبقاء على حياته , فقلت لطبيبي السوري الصديق والغالي وهو من قرائي الآن " الى أين المفر " ؟؟ ,

تهمني من الرواية مسألة الإستحقاق ويهمني بصورة خاصة سؤال جوهري نحن بأمس الحاجة اليه : لو مثل البوعزيزي الشهيد كرمز لألوف الشهداء في كل ركن , هل يمكن ان نطلب منه الصفح , هل الصفح أوالغفران يشمل الذاكرة المدماة لمن دفن ابنه وابنته وزوجته وشقيقه بيديه بين الدمار والحصار, هل أستطيع أن اطالب أماً من الأمهات بالغفران لمقتل ابنها بعد اعتقاله وتعذيبه في أي ركن , هل تتم تصفيتي كطبيب لمجرد أنني أنقذت أبرياء لااعرفهم ؟ ثم ، لو أنني طبيب ، وجاء الي قاتل أبي مثلاً في حالة إسعاف بين الحياة والموت , هل أدعه يموت أمام عيوني أم أقوم بواجبي أولاً وأسعفه ؟,

حقيقة نحن أمام قضية كبرى تتجاوز ماحسبته يوم تمرد القلب عندي كقضية هامشية صغرى قياساً للوجع العام , لكن المفرح والباعث للأمل بحق - وأنا مسّجى وقبل مغادرة العناية المشددة - يتمثل في كلمتين اثنتين رددهما طبيب ماهر من العراق الحبيب كان كلّما لامس القلب بوضعه الجديد يهمس بالقرب مني وسماعاته على أذنيه " كلّش زين , كلّش زين " الوضع في ذاك الجانب بخير , والوضع هنا أيضاً بخير" ,,كم كنت أسعد بفحص وكلمات الدكتور أسعد " وهذا اسمه " وهو رئيس قسم العناية المشددة , وذات مرّة صمت ولم يقلها فسألته بحيرة " ماذا يادكتور لم أسمع منك عبارتك الحلوة فهل في الأمر جديد " ؟ لا أبداً – لم أقل شيئاً لأن " كلش زين حقيقة " .. الى عينيّ ورفيقة دربي ، والى قلبي ، إبنتي خلود وابني البكرمحمود.." عندما تحين ساعة الفراق كم سأبدو سعيداً بدعائكم مرفقاً برسالة موجزة وقد غدوت في ديار الحق , اطمئن , البوصلة أصبحت في الإتجاه الصحيح دفاعاً عن الوطن , بابا مروان "" كلّش زين "" ,,,

ل.. أيام كندية، فجر الأول من نوفمبر- تشرين الثاني - 2019 "

- سان لوران مونتريال , مروان صواف ...

مواضيع ذات صلة