الصورة.. ذاك الصديق اللدود، بقلم الإعلامي القدير أ. مروان صواف

مشهدٌ أول :: أذكر حالة ذاك الطفل تماماً ، كنت أخال الشاشة السينمائية - وأنا أنتظر وبلهفة وشوق بداية الفيلم في دار للسينما - مجرد ستار يخفي وراءه الممثلين " كالمسرح تماماً " وأن أبطال العرض سيظهرون تباعاً ومعهم عالمٌ بحاله بكل مافيه من تفاصيلَ وأحداثٍ وصور ومشاهدَ وأصواتٍ وأنغام لايحول بيني وبينها سوى الظلمة وعتمة الصالة ، وبمجرد رنين الجرس الذي يعلن بداية مانسميه بال " المناظر " التي تسبق العرض الكامل للفيلم الأساسي سيبدأ كل شيء ، وما أسعدنا كأطفال لو كانت الفرصة تتيح لنا رؤية فيلمين بوقت واحد وبالمبلغ الزهيد نفسه ...

مشهد ثان :: أستعيد صورة ذاك الشاب الذي بدأ حياته المهنية بعد نيله درجة الإجازة العامة في الآداب – قسم الصحافة – وقد أخذ يتابع فيلماً مثيراً للدهشة بعنوان " بطل الفعل الأخير " .. والفيلم يروي حكاية طفل " قد يماثل في العمر والحالة ذاك الطفل في المشهد الأول " إنما مع فارق أساسي " وهو أن الطفل في المشهد الثاني حصل – ودون أن يدري - على بطاقة سحرية للدخول الى دار للسينما تؤهله للإندماج والمشاركة في أحداث العرض ، حيث تبلغ أحداث الفيلم قمة الإثارة مع تدحرج قنبلة يدوية رماها ممثل أساسي أثناء اشتباك ناري وخروجها - ودون أن تنفجر - من الشاشة الى أرض الصالة ومكان جمهور المشاهدين ، وكان ذاك إيذاناً باندماج الطفل في أحداث الفيلم وانضمامه الى الممثل أرنولد شوارزينغر ليصبحا معاً البطلين الأساسيين في مجرى الإحداث ، هل كان ذاك المشهد المباشر إيذاناً ببدء عصر " جبروت الصورة " ؟ ،،

يخال عشاق السينما أن عصر الطغيان والجبروت هذا بدأ قبل ذلك بكثير تاريخياً ، فقد تجلى على الأقل مع العرض السينمائي الأول الذي قدّمه الإخوة لوميير في مقهى فرنسي إيذاناً ببزوغ فجر الفن السينمائي عام 1895 وتم عرضه في السادس من يناير 1896 عندما أصيب الجمهور بالهلع وهو يرى قطاراً يندفع في اتجاهه " ووفق قواعد المشاهدة الجماهيرية السينمائية وعدوى الرعب " أحذ المشاهدون يلوذون بالفرار من الخطر الداهم " ، فعلاً ، كانت تلك هي الإشارة الأولى لجبروت وطغيان الصورة السينمائية في عصر اختلط فيه وهم الرؤيا بسحره مع الواقع بجلائه ، والى درجة أن الناس كانوا يحسبون الغرقى في فيلم كارثي لغوص سفينة في العمق أو سقوط طائرة وتحطمها مثلاً ضحايا حقيقيين ، ويصابون بالحزن العميق وهم يحصون الأرواح في الأفلام الكارثية بحيرة متسائلين " ماطبيعة هذا الفن الذي يشهد مصرع أبطاله تباعاً وبالجملة " ؟ ..

لا أعرف تماماً كيف امتثلت الذاكرة للمشهدين واستعادتهما معاً وأنا أقرأ سؤالأ ذا صلة لاشك تحت عنوان :: المجاز المتوحش وفي كتاب للدكتور عبد الله الغذامي حمل اسم " الثقافة التلفزيونية ، سقوط النخبة وبروز الشعبي " .. يقول السؤال : ماذا لو أن مشاهداً يتابع التلفزيون ثم فجأة خرجت الصورة إليه عبر الشاشة وراحت تضربه على وجهه وتفتك به ، هل هذا قابل للحدوث فعلاً ؟ .. نعم حدث هذا مراراً : - حدث مثلاً في السادس والعشرين من ديسمبر عام 2004 في واحدة من أقسى الكوارث الطبيعية " في تاريخ الإنسانية الحديث " كارثة تسونامي ، حيث ارتفع منسوب البحر الى خمسة عشر متراً في زلزال ضرب أندونيسا ، سيرلانكا ، الهند ، تايلاند ، وأدى الى مقتل 300 ألف نسمة وفق دمار بيئي وتشرد وضياع إنساني لامثيل لهما ، ومنذ ذلك الحين أصبحت كلمة تسونامي شائعة ومستخدمة في أدبياتنا وثقافتنا كثيراً بالمعنيين الواقعي والمجازي وكلما أراد كاتب أو متحدث أو باحث أن يطلق وصفاً وتشبيهاً لإجتياح ما " طبياً وسياسياً وبيئياً وعسكرياً بل فنياً وأدبياً وإعلامياً أيضاً " ، لقد بدت كارثة تسونامي وهي تُنقل على الهواء مباشرة وفي بث داهم وصريح مثالاً مذهلاً على خروج الصورة الفيلمية كوثيقة من المجاز المتوحش كما ورد في المثال الى ضراوة وواقعية الحياة عبرصفعة تلقاها الناس وهم يحصون الخسائرويعاينون المصيبة ، ليس على طريقة مشاهدي أفلام الأخوين لوميير في المقهى الباريسي الشهيريوم بزع فجر الفن السينمائي لأول مرة ، وإنما بمنطق الحقيقة والواقع المرّ هذه المرة وحساباتهما في الحياة ..

- وحدث هذا أيضاً مع مشهد انهيار البرجين في ضحى يوم الحادي عشر من أيلول سبتمبر ، عندما تجلى سلطان وجبروت الصورة - وبالمشهد المعد سلفاً – في عرض بالغ الدهشة والأثر وبما فاق وبكثير أي إخراج سينمائي لاحق تم تصويره كفيلم " يونايتد 93 " مثلاً الذي روى حكاية الطائرة التي لم تصل الى هدفها لتدمير " البيت الأبيض " والتي اشتبك ركابها مع قبطانها وفريقه الى أن هوت في بنسلفانيا أنذاك ..

- وحدث هذا قبلا ًيوم ذاع وشاع تعبير " الصدمة والترويع " وهو تعبير أمريكي عسكري صرف أريد به إحداث شرخ مادي معنوي في صفوف القوات العراقية غداة أحداث " عاصفة الصحراء " وبالذات فجر السابع عشر من يناير كانون الثاني عام 1991 ولغاية الثامن والعشرين من فبراير شباط من العام نفسه ووفق تداعيات تتالت منذ الأول من آب أغسطس عام 1990 في ذاك الصباح اللاهب الدامي الحزين ومع اجتياح القوات العراقية للكويت وماتلاه من نتائج مريرة ، كانت معارك ما اصطلح على تسميته أميريكياً بعاصفة الصحراء أشبه بحرب كاملة منقولة على الهواء وفي بث مباشر ولأول مرة ، ومامن شك أن الصورة – بكل ما عنته وجسدته – لعبت دوراً لافتاً في ترجمة شعار الصدمة والترويع ، وهو شعار امتد ليشمل في مظلته وبعد اثني عشر عاماً " نيسان إبريل 2003 " البث المباشر المنقول من ساحة الفردوس في عاصمة الرشيد مع سقوط التمثال بعد محاولة تغطية وجهه بالعلم الأميريكي .

- حدث هذا أيضاً " استخدام عنصر الصورة في ترجمة مبدأ الصدمة والترويع " يوم لجأ تنطيم معين في السنوات الأخيرة الى بث مشاهد للقتل وبأفظع الوسائل " حرقاً وإغراقاً وذبحا " وعلى الملأ وفي أفظع توظيف للمشهدية يتصوره عقل " : مشاهد معدة بعناية وبدم بارد من قبل مخرجين وفنيين ومصورين مختصين في أفلام العنف والرعب فيما يبدو ولكن بتنفيذ واقعي حقيقي لاخيال ولا تمثيل فيه ؟ ..

- وحدث هذا فعلاً أثناء النقل الحي لمناسبة حضارية رياضية حوّلها العنف الدامي الى مأساة حقيقية وكان البث التلفزيوني وسلاح الصورة حاضرين هناك في استاد هيسسيل الرياضي في بروكسل وأثناء اشتباك بين مشجعي فريقي جوفانتوس الإيطالي وليفربول الإنكليزي في 29 مايو أيار عام 1995عندما انهار جدار فاصل بين الطرفين ، وكان ذاك مثالاً لخروج الصورة التلفزيونية لا أرادياً من موقعها وعبر الشاشة لتصفع المشاهدين وتفتك بهم دون قصد وهي ترصد وقائع مجزرة لاتنسى ، وقد تسنّى لي ولكل من شاهد في ذاك الوقت أن يتابع تلك الفصول الدامية ,,

- ولكن ،، أما من حالات مشرقة كانت فيها الصورة الصديق والنور المشرق ؟ ، هذا أكيد وما أكثره ، سيما في الأحداث والفتوح الإنسانية الكبرى كهبوط الإنسان على سطح القمرلأول مرة وفي التغطية الآنية لفعاليات دورات الأولمبياد الرياضي وجمالها مثلاً على مر السنين ، وكالمتابعة الفورية لمباريات كأس العالم لكرة القدم " المونديال " بسحرها مع التحفظ على مظاهر وتقاليد الإستغلال والتشفير في نقلها بالطبع " سيما أن كرة القدم خبز الفقراء إن صح الوصف " ، و كمهرجانات السينما على اختلافها عالمياً ، وكنقل الأحداث والمؤتمرات العلمية والسياسية ، والإقتراب من رصد أي اكتشاف علمي لحظة بلحظة ,, يمكن القول إن الصورة أداة بين أيدينا ـ والمستخدم هو المسؤول أولاً وآخراً ، ومامن ذنب لزر التصوير إذا أراد صاحب الهاتف النقّال أو الكاميرا المعدة احترافاً أن يأخذ " سيلفي كوثيقة شخصية " بين أشلاء الضحايا إثر انفجار وقع للتو مثلا قبل أن يهبّ لإنقاذ المصابين تحت شعار سطوة الصورة وتحقيق السبق أو المجد المهني ، أو أن يلتقط ربما " سيلفي " كذكرى في معرض للزهور ، وكلا الأمرين واقعٌ كمثال كجزء من ولع وإسراف عامة الناس في التقاط الصور ولو لنقل حدث عابر جداً قد لايتجاوز تصوير مائدة في وجبة ما ؟ . - ومن وحي الصورة وسلطانها وجبروتها أرى ذاتي متأثراً بحدثين اثنين يشغلان الرأي العام في كندا حيث أقيم وأثناء كتابتي لهذه السطور ::

الحدث الأول يمثل اعتذاراً تقدّم به السيد جاستن ترودو رئيس مجلس الوزراء الكندي عن صورة ذات بعد عنصري مستوحاة من قصص ألف ليلة وليلة ، بل تمثّل محاكاة لشخصية علاء الدين في حفل تنكري ، ولم تكن المشكلة فيما استحضره فانوس علاء الدين السحري وإنما في لون وجهه الذي اختار له ترودو المتنكر في الحفل لوناً أسودَ غطّى وجهه تماماً ، وقد أوقظت الصورة من سباتها وتم استدعاؤها من حفل تنكري قديم ومن ثم توظيفها من قبل خصومه في الإستحقاق والمعركة الإنتخابية الدائرة حالياً وأين ؟

في بلد قائم على الجمع بين الأطياف والأجناس كلاً ، مما حدا بالرجل للوقوف بكل شجاعة وصدق والقول " إنني أطلب من الكنديين بأطيافهم كافة أن يسامحوني ، نعم ، كانت مجرد حفلة تنكرية ، ولكني – وبكل صدق – أخطأت في اختياري خطأ فادحاً يحط من قدر فئة وطيف واسع أكن لهما الإحترام والتقدير " : إنّ تاريخي وحاضري السياسي يشهدان لي بأن تصرفاً غير رصين كهذا لايعكس موقفاً أو منهجاً ، وبالبداهة سيسأله خصومه " لو لم تكن هناك انتخابات مقدمٌ أنت على خوضها ، هل كنت راغباً في الإعتذار بل في الإعتراف بالواقعة أصلاً " ؟ ,, يتوقع المرء أن من سيجيب عنه هم أبناءُ أطيافٍ وأجناسٍ بحالها لمسوا نقاءَ وانسانية هذا الرجل ، سيما القادمون " لجوءً وهجرة " من مناطق رأت الموت وعاشت الضياع وعرفت معنى فقدان الأمن والأمان " وسورية مثالاً " .. ربما بدا السؤال الأهم " هل يمكن لصورة توحي بتهمة العنصرية أن تطيح بالمستقبل السياسي لشخص ما ، الجواب نعم بالتأكيد ، سيما في بلد ككندا لا يعامل أحدٌ الآخر – بموجب القانون على الأقل – على أساس جنسه أو عرقه أو لون بشرته أو ديانته ، وبالتالي ، فإن من اختار بعث الصورة من سباتها بهذا التوقيت كان يعرف تماماً ما ذا يفعل ,,

- وأما المشهد الثاني الذي يستأثر باهتمامي وأنا أراقب الأحداث والتي تبث عالمياً من المحروسة مصر وعنها فيتمثل بإطلالة عبر الصوت والصورة لفنان من مصر يقيم في اسبانيا ويستميل أويحاول استقطاب الرأي العام في رسائل يوجهها تباعاً عبر وسائل الإتصال الإجتماعي بما يذّكر بالتعبئة التي سبقت اندلاع ثورة الخامس والعشرين من يناير عام 2011 ، فقد قادت إطلالات الفنان الشاب محمد علي - صوتاً وصورة - الجموعَ الى ميدان التحرير مباشرة للمطالبة برحيل نظام الرئيس المصري الحالي عبد الفتاح السيسي " ، واسمه " بالبداهة " يذكّر بأسرة محمد علي التي حكمت مصر عقوداً طويلة وانتهى وجودها مع رحيل الملك فاروق عن الحكم في السادس والعشرين من تموز يوليو عام 1952 ,,

- محال أن تطوي أوراقك وتغلق ملفك دون أن تأتي على ذكر الجانب الأخلاقي الذي يجب أن يحكمك وأنت تمسك – وبقبضة اليد – بهذه الجوهرة المسماة بالصورة والتي اتفق الكل على اعتبارها قمة البلاغة في التعبير وذروة الإيجاز ، إنه جانب يبدو أقرب لتحذير يقول " الصورة ليست لعبة ، ومحال أن يقودنا الهيام لتحقيق سبق ما الى العبث بها ، إذ حتى لوضحينا بالمجد المهني في كثير من الأحيان في سبيل إنقاذ إنسان بريء وعدم التشهير به " ومهما كان تصويره مغرياً فإن كرامة الإنسان أهم بكثير من أي نصر مهني وفق قاعدة " الإعلامي أو الفنان الإنسان أولاً ، وهذا حديث يطول تماماً كما أن التوقف عند مبدأ الأمانة وعدم العبث بالصورة بواسطة وسائل التشويه العصرية المتقنة مسألة بحثها مديد أيضاً ،، ربما بدا السؤال صارخاً عمن يحمي هذه الصورة أو تلك من العبث أوالتشويه " بحثاً عن ميثاق قانوني ما " ، إلا أن من يشغل وجداني وروحي مايزال ، هو ذاك الطفل الذي كنته والقابع في ظلمة دار السينما ينتظر أن ترفع الستارة الفضية عن أبطال الفيلم وقد اصطفوا على الخشبة ليجسدوا أدوارهم في الفيلم ، وكأن الفن السابع " السينما " قد التحم مع أبي الفنون " المسرح " لتغذية روح وعقل ذاك الطفل ولتحقيق أكبر قدر من إمتاع الفرجة والتسلية الواعية ..

مروان صواف لمجلة أيام كندية – سان لوران - مونتريال – فجر الثالث والعشرين من أيلول سبتمبر 2019

مواضيع ذات صلة