علاء الدين كوكش مخرج من جيل الرواد المؤسسين

علاء الدين كوكش مخرج من جيل الرواد المؤسسين
أين هو من ذاكرة الجيل الجديد ؟   
دمشق - عامر فؤاد عامر

   "أسعد الورّاق"، "رأس غليص"، "سيرة بني هلال"، سيرة الشاعر "وضاح اليمن" ، "الذئاب" ، "أمانة في أعناقكم" ، "مذكرات حرامي"  و"حكايا الليل والنهار " وكمّ من الأعمال الدّراميّة التي وضعت أسس ذاكرة التّلفزيون العربي السوري منذ بدايات نشأته وحتى رحيل صاحبها، ورسخت في أذهان الأجيال ليس على صعيد الدّراما السّوريّة فحسب بل في ذاكرة الدّراما التّلفزيونيّة على امتداد الوطن العربي، والتي حملت توقيع المخرج الرّائد علاء الدّين كوكش .
  يستحق منا "كوكش" اليوم الوفاء في استرجاعٍ لذكرى تحمل فضل جيل الروّاد من المؤسسين لذاكرة وأرشيف  التلفزيون الوطني، والتي تركت أثراً لا يمكن الاستهانة به، ليس على مستوى الدراما التلفزيونية السورية والعربية فحسب، بل على صعيد الانتقاء الثقافي الجيّد للنصّ والمحتوى ، كرافد لثقافة الجمهور لأجيال قادمة، فقد استطاع كوكش خلال مسيرة عملٍ حافلة، تعريف الجمهور عبر الدّراما بين ما المكتوب في الذّاكرة الشعبيّة ونقله لعالم المرئي بشكّلٍ حمل بصمات أضيفت على الشخصيّات ولعل مسلسل "سيرة بني هلال" بأجزائه الثلاث يستحق منا الاستحضار على الشاشات اليوم بدل الكمّ الكبير من المواد التي تبث ذات المحتوى الهشّ، والتي تُنقِص من ذائقة وسوية ما يتلقاه الجمهور.
رحيل الرّوّاد الواحد تلو الآخر ممن كان لهم الفضل في عمليّة تأسيس التّلفزيون السّوري، يضعنا أمام مسؤوليّات نقل ما قدّموه للأجيال الجّديدة، خصوصاً إذا ما أجرينا مقارنةً بين الإمكانيّات المتواضعة جداً التي كانت بين أيديهم، والأجور الهزيلة التي كانوا يحصلون عليها لقاء الجهد الكبير المبذول لإنتاج مسلسل أو برنامج أو مادّة ذات محتوى عالي، وتصحّ المقارنة بشكّلٍ نقديّ مع الإمكانات الكبيرة للكثير من الجيل الجّديد من المخرجين وصُنّاع الدّراما اليوم، والذي قد نُدّهش بأنّه فاقدٌ حتى لأهمّ عناصر الجّذب من ضعف محتواه، وبعضها لا يكادُ يمضي على عرضه أشهر حتى ينسى الجمهور حتى اسم العمل بينما يرسخُ في الذّاكرة عمل بديع ك"أسعد الوراق "، هذا العمل الذي اختاره المخرج نقلاً عن رواية الـأديب الكبير صدقي اسماعيل، والتي حملت عنوان " الله والفقر "، حيث استطاع بأمانة وفريق عمله آنذاك من مثل الممثل القدير الراحل هاني الروماني وأيقونة الدّراما السّوريّة منى واصف الوصول إلى أن تخلو الشوارع من الناس في موعد عرض المسلسل في العام 1975، وبسبب قوّة المسلسل أُعيد إنتاجه في العام 2010 ومثّل الشخصيّات الفنان تيم حسن والفنانة أمل عرفة لكن في الحقيقة لم يرسخ في الذّاكرة كما النتاج الأوّل فلماذا يا ترى؟
تضيف لنا القديرة منى واصف من تجربتها الثريّة وبالتحديد عن النجاح مع المخرج علاء الدين كوكش فتقول: "كلّ شخصيّة قدّمتها كانت تحمل مساحة من الاستمتاع في أدائها، ولم أفكر يوماً في مدى نجاحها أم لا، فالنجاح يأتي في مرحلة لاحقة، ولكن نجاح شخصيّة منيرة في "أسعد الوراق" بقي يرافقني حتى اليوم، ففي كلّ بلدٍ سافرت إليه يأتي شخص يتحدّث أو يشير لصرخة منيرة في "أسعد الوراق"، وعلاء الدّين كوكش كان شيخ المخرجين بين أبناء جيله، مسيرته حافلة بالعطاء هو أسس للدّراما السوريّة وكان رياديّاً في إنتاجه، أثّر فينا كثيراً كممثلين وجمهور، لكن في النهاية رحل وكنت أتمنى لو أن ما يُكتب عنه اليوم ليكتب وهو حيّ كي يقرأ، لأن من الضرورة استذكار الفنان في الفترة الأخيرة من حياته، ومن الضرورة أيضاً أن نوثّق أعماله، ونستذكرها دائماً".
أمضى الراحل أربعين عاماً من العمل في حقل الدّراما، والإخراج، والكتابة، قدّم خلالها ما يفوق الثلاثين عملاً في الدّراما التّلفزيونية ،بدأها كموظف في شعبة البرامج 1960 ثم رئيساً لدائرة المنوّعات 1964، لينتقل إلى مساعد مخرج  في العام 1966 ، ويقدّم بعدها أوّل عمل درامي تلفزيوني من إخراجه "يوميات أبو رشدي" 1967.
يعدّ التفاني في العمل والإخلاص للمحتوى؛ العنوان الأبرز في مسيرة هذا المبدع، فسار بكلّ سمات ذاك العصر في العمل الدّرامي على نهجٍ من احترام فريق العمل، والتفاهم المشترك الذي كان يسم جّو التصوير، والذي يتحدّث عنه الكثير من جيل الرواد بحسّرة عن سوية الاحترام والتقدير في فريق العمل والإخلاص للقيم، إذّ لم يكن العمل لديه كمخرج وظيفة بل كان مهمّة مقدّسة، حيث يقول المخرج الراحل في أحد الحوارات المُسجّلة معه: "بعد حصولي على التقاعد فوجئت بانتظار البعض لهذا الأمر، وكأنهم على استعجالٍ ليحصل، وهذا المفهوم القاصر يُزعج لأنه يدلّ على جهل الناس بأهميّة التّلفزيون، وهم لا يعلمون بأن الفنان الحقيقي بعيدٌ عن التقاعد، ولا يمكن له أن يتقاعد"، ومن هذه النقطة لا بدّ من التذكير بفكرة التجديد التي كان الراحل "كوكش" يقوم بها، فالفنّ لا يقوم إلا بإعادة إحيائه، وهذا ما نراه في سلسلة الأعمال التي أخراجها والتي تُجدّد الروح في التلفزيون العربي السوري.
     لم تقتصر خبرة علاء الدين كوكش في التأسيس للتلفزيون الوطني الأم والحاضن الأساس، بل قدّم العون في إحداث العديد من المحطات التلفزيونيّة بعيد إنشاء التلفزيون العربي السوري، فصوّر فيها أعمالاً عُرضت على شاشاتها مثل التلفزيون اليمني، والتلفزيونات الرّسميّة لكلّ من الإمارات، والأردن، وقطر، ولذلك نراه يستعيد سيراً شعبيّة يحبّها الجمهور العربي، وستبقى مُحرّك الوجدان كلما عُرضت لأن أبطالها حاضرون في الضمير العام مثل "سيرة بني هلال" بأجزائها الثلاثة، "سيف الدحيلان"، "وضاح اليمن"، "الذئاب"، "راس غليص" و"ساري" وغيرها.
لا بدّ من التأكيد أيضاً إلى أن علاء الدين كوكش هو المؤسّس لصنف درما البيئة الشاميّة، التي أحبّها الجمهور وينتظرها في كلّ موسم، وبات لها مساحتها الخاصّة في العرض على امتداد الوطن العربي، وعشرات المسلسلات ولدت بعده، إلا أن عدم الإخلاص للمحتوى، وفقط الاتجاه للربح واستغلال محبّة الجمهور العربي لهذه المادّة أو الصنف جعل من هذه الأعمال بيئة يُقتات عليها، فجاءت فارغة المضمون، وخير مثالٍ على ذلك مسلسل "باب الحارة" بجزأيه الأوّل والثاني، هذان الجزأن الذي أشرف عليهما كوكش فنيّاً ودراميّاً، فقد كانا يحملا قيمةً عالية، وبعد أن ترك كوكش العمل سقط، فلماذا يا ترى؟
بدأ علاء الدين كوكش العمل أيّام الأبيض والأسود فأسس، ثم عاصر حداثة التقنيّات ودخول الألوان على التلفزيون فأبدع وحقق حضوره المهم، لكن ما يتضح في أعماله في كلا المرحلتين هو انتقائه للنص القوي والبحث عن الفكرة الأهمّ، لذلك نراه مع زكريا تامر في "حكايا الليل والنهار"، ومع حكمت محسن في "مذكرات حرامي"، ومع عادل أبو شنب، محمد الماغوط، صدقي اسماعيل، وعبد العزيز هلال والعديد العديد من الأسماء البارزة في عالم الأدب والتأليف، ولكن لا بدّ من التذكير بتفاعله مع التقنيّة وطريقة التعامل معها فهو أوّل من وفّق صوت الراوي الزجلي مع مقاطع الدّرامي، وكانت مع الشاعر حسين حمزة ومسلسل "حارة القصر" 1970.
لن ننسى للراحل تجربته في عالم التأليف والكتابة، فقد نشر مسرحيّاته في مجلة "الناقد" و"المعرفة" السوريتين، و"سطور" المصريّة، و"كتابات معاصرة" و"الآداب" اللبنانيتين، و"الفنون" الكويتيّة، كما نجد أعماله المسرحيّة في كتاب "مسرحيات ضاحكة" والتي تُذكرنا بتجاربه المسرحيّة في سوريا وعدد من البلدان العربيّة، والمُشاركة في تأليف آخر مسرحيّات الكبير دريد لحام "السقوط"، وتجربته في القصّة القصيرة مثل "إنهم ينتظرون موتك"، ورواية "التخوم"، وكذلك المعالجة الدّرامية لمسلسلي "الرجل س"، و"حي المزار"، وتأليف سيناريو فيلمي "حبيبي مجنون جداً، و"النصابين الخمسة"، وأفلامه التّلفزيونيّة الثلاثة التي أخرجها أيضاً وهي "لا، لن ترحل، القلب يحكم أحياناً"، وبخصوص السينما قدّم الراحل نفسه كممثل في فيلمي "المخدوعون"، و"المتبقي" بدور رشيد عودة الذي حصل فيه على شهادة تقدير من مهرجان دمشق السينمائي التاسع، أمّا في الدراما التلفزيونيّة فقد حضر في عدّة مسلسلات كان آخرها مسلسل "شارع شيكاغو" كضيف شرف.
أثّر الراحل عبر مسيرته في كثيرٍ من الجوانب ويتوجّب علينا استذكارها في كلّ مناسبة، وبصورةٍ دوريّة، ومن واجبنا كصحفيين أن نبادل هذا العطاء بالإخلاص لذكراه دائماً، وبالتواصل مع شقيق الراحل الكاتب والمؤلف أسامة كوكش، نرفق كلماته في رثاء أخيه: "أنّى تنقلتُ، بين كتبي، أوراقي، ملفاتي ويوميّاتي أجدك حاضراً تأبى الغياب، أكثر من خمسين عاماً قد مضوا على تعارفنا، أقل مراحل العلاقة شأناً كانت رابطة الدّم، وأكثرها حضوراً كانت صداقتنا، وما بين الاثنتين تنضوي آلاف الأفكار، المشاعر التقلّبات، الصّراعات والكلمات، بعد هذا كلّه هل تعتقد أن الموت قادر على أن يقهر ما كان بيننا؟ الرثاء لمن رحلوا، أنت الحاضر دوماً على الرغم من مرارة هذا الغياب".

 

مواضيع ذات صلة