المسيحيون والمسلمون العرب في كندا تحت المجهر بقلم معتز أبوكلام/ أيام كندية

..لطالما حاولت تجنب دخول منطقة التماس بين الأديان، ولكن يبدو أن الأمر بات يستدعي الإهتمام، تحسباً من نشوب ما لا تحمد عقباه،
 
لدى المتابعة لعدد لا يستهان به من تعليقات الصد والرد والثرثرة الطائفية عبر الفيسبوك ووسائل التواصل الإجتماعي، يتبين للمتابع أن أفراد الجالية العربية سواء كانوا (مسيحين أو مسلمين)، هم أمام تحدٍ كبير،.. تحدي قبول الآخر في بلاد المهجر.
 
سأدخل في صلب الموضوع مباشرةً..
بعض الأخوة من المسلمين العرب يرون أن إستقبال كندا لهم وإحتفاء الحكومة الكندية بالمناسبات الإسلامية هو نصر موعود وبُشرى للجالية الإسلامية في بلاد الغرب. ويذهب البعض منهم إلى المبالغة في الملبس والهيئة كما لو كان يعيش في أفغانستان والسعودية وباكستان، وربما يحاول البعض منهم فرض مسلماته الدينية على الآخرين وكأنها مسلمات كونية يجب أن يتقبلها الآخر دون نقاش، وآخرون ما يزالون ضيقي الأفق، منغلقي التفكير، قيدوا أنفسم وعقولهم بفتاوى ظلامية إقصائية تكفيرية باطلة، لا تمت بصلة إلى الإيمان بالله الخالق لا من قريب ولا من بعيد، وكل هذه السلوكيات والتجاوزات مرفوضة جملةً وتفصيلا، وهي بحق مدعاة لشحن النفوس وإستفزاز الأخر، والمؤسف بالأمر أن تبعات ذلك كله تعود على عامة المسلمين المسالمين وليس على الفئة الظلامية منهم.
 
وعلى الطرف المقابل، هناك بعض الأخوة من المسيحيين العرب، ممن يرون أن كندا مؤلاً لهم، ووطن ينبغي أن يُسخر لهم فقط دون غيرهم، ومنهم من يتلفظ بألفاظ مسيئة بحق الحكومة الكندية، ويعتبر أن رئيس الوزراء جوستن ترودو قد اقترف خطيئة لإستقباله مهاجرين من غير المسيحيين على أرض كندا.
 
أيها السيدات والسادة.. تعالوا لنضع النقاط على الحروف.
 
كندا.. هذا البلد العظيم، الذي يستقبل ويحتضن أناس ينتمون لأكثر من مائتي ثقافة ولغة ودين مختلفة، هو بلد قائم على أسس متينة راسخة، شرطها الأساسي الديمقراطية والتعددية وقبول الآخر، ولعل سر قوة كندا واستمرارها على ما هي عليه، هو حالة التنوع والتعايش الفريدة التي ينعم بها سكان هذا البلد الإنساني بكل ما للكلمة من معنى، ولعل الحكومة الكندية على إختلاف أحزابها السياسية، تعتبر هذا الأمر ميزة نادرة، تفاخر به بين الأمم الأخرى، لكنها في نفس الوقت، بلد مدني علماني، يقف على مسافة واحدة من جميع المكونات على إختلافها.
 
لذلك.. أيها الأخ المسلم، دعك من تطلعاتك وهواجسك في أن تهدي الناس جميعاً إلى دينك، ومنكم من يبالغ ويدعو ويتمنى الهداية لرئيس الوزراء جوستن ترودو، وبصراحة أرى في ذلك تنطع ومزاودة وتكلف غليظ، فإن كنت تحرص على دينك بحق، فحقق أمنياتك الدينية هذه من خلال استقامتك أنت، كما أمرك ربك، ومن خلال حسن معاملتك مع الآخر، وأدعو نفسي وإياك لأن نركز تفكيرنا فيما حبانا الله من عيش كريم في ظل دولة عادلة، كنا ندعو الله في سرنا وجهرنا أن يرزقنا حياة هانئة.. في بلد آمن.. يسوده العدل والرخاء..، دولة تخاف الله فينا، وفي ملايين آخرين من الكنديين على إختلاف ثقافاتهم وعقائدهم، ولعلنا نشهد جميعاً بأن غالبية الشعب الكندي بجميع مكوناته يعيش في وئام وانسجام إلى درجة كبيرة والجميع في كندا سواسية أمام السيد القانون، حيث لا محسوبيات ولا غلبة لفئة على أخرى.
 
وأنت أيضاً.. أيها الأخ المسيحي، توقف عن ممارسة الشوفينية التي يُظهرها البعض في بلاد الغرب، فمن المعيب أن نتعامل بعدائية نحو الآخر، ومن المشين أن نتصرف وكأن كندا مزرعتنا الخاصة، نقبل فيها من نشاء، ونطرد منها من نشاء. 
 
وإذا كان البعض من الأخوة المسيحيين يبرر لنفسه تلك التجاوزات وهذا التمادي على الآخر بحجة ما قد تعرض له من إضطهاد أو ممارسات عرقية في بلده الأصلي ( كما يقول البعض )، على يد شرذمة باغية أو أنظمة قمعية ديكتاتورية بغيضة، فينبغي أن نكون منصفين، وندرك بأن المسلمين العرب، هم أيضاً كانوا ولا يزالون عرضة لما تعرضتم له على يد تلك الآلة القمعية نفسها، والفئة التكفيرية الباغية ذاتها، فلذلك.. لا يجوز أبداً للبعض منكم أن يجعل من أرض السلام.. كندا، أرضاً للثأر والإنتقام، حتى ولو كان هذا على مستوى الأصوات والمناوشات الشاذة المنبعثة من هنا وهناك.
 
ولكي نكون منصفين أيضاً، ينبغي أن لا نتغافل عن حالات الإضطهاد والتطهير العرقي التي تمارس بحق الملايين من المسلمين في بلاد كثيرة حول العالم ومنها الهند والصين على سبيل المثال لا الحصر،  وذلك على أيدي فئات باغية متطرفة محسوبة على الديانات الهندوسية والبوذية وفئات باغية محسوبة ظلماً على أديان وطوائف أخرى، ومع ذلك لم نسمع يوماً أن الجالية الإسلامية في كندا مثلاً، تناصب العداء للجالية الهندوسية أو البوذية أو غيرها بحجة ما يعانيه أخوانهم في تلك البلاد.
 
ينبغي على العقلاء من كل طرف أن يُسكتوا أصوات الكراهية التي تعلو وتتلاطم من حين لآخر، إذ أن مناصبة الآخرين العداء، هو تصرف مزموم، لا يسيئ للآخر فحسب، بل يسيئ لبلدنا.. كندا، ككل، ويغرس بذور العداوة والشقاق والبغضاء بين الناس ويُحرض على الفتن. وواجب كل مواطن غيور على المصلحة العليا لكندا، أن يحافظ على سلامة النسيج الوطني والإجتماعي لهذا البلد الآمن الذي احتضننا جميعاً، واحتضنك أنت، كما أحتضن الآخر، ولا تنسى بأنك أنت وهو عربي، وتجمعكما لغة وثقافة مشتركة، شئتما أم أبيتما.
 
أيها الأخوة والأخوات، في بلاد الحرية والديمقراطية والمواطنة، لا يجوز أبداً لأحد أن يزاود على الآخر. وفي هذه البلاد تعلمنا بحق، معنى أن لا فضل لعربي على أعجمي، ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى وبالعمل الذي ينفع المجتمع ككل وليس فئة أو طائفة على حساب أخرى، وينبغي أن يكون هذا ديدننا جميعاً، والبوصلة التي توجهنا، والمنارة التي نستنير بها، مهما تباينت معتقداتنا، ومهما تنوعت ثقافاتنا وتشعبت انتماءاتنا. وعلينا جميعاً أن نضع نصب أعيننا أن في كندا دوماً.. الدين لله، والوطن للجميع..، وأن نحترم ونلتزم النهج العلماني الديمقراطي السائد الذي نستظل بظله ونقطف ثماره معاً. 
 
وأما من أراد أن ينفخ في كير العداوة والكراهية ويمارس الفوقية والشوفينية، فالأولى به العودة من حيث أتى، سواءً كان مسلماً أو مسيحياً أو بوذياً أو كائن من كان. 
 
ولا يسعني إلا أن أختم بكلمة محبة، أعبر فيها عن خالص اعتزازي وإخلاصي لعدد كبير من الأصدقاء المسيحيين ممن مروا في حياتي في مدينة دمشق ومدن عدة.. فكانوا نِعم الجوار.. ونِعم الأصدقاء.. ونِعم الزملاء.. ونعم الطلاب.
 
والسلام ختام
 
معتز أبوكلام 
صاحب مؤسسة تعليمية، ورئيس تحرير مجلة وموقع أيام كندية  
 
مدينة ميسيساغا، تورونتو، كندا
صباح يوم الخميس ٢٨ مايو آيار ٢٠٢٠
 

مواضيع ذات صلة