موّال الغربة بقلم الأستاذ مروان صواف
بحثاً عن الفرح الرصين والسلوك الذي يليق "..الذاكرة تروي, قومي من تحت الردم ، قومي كقصيدة ورد ، قومي كقصيدة نار ، قومي من حزنك قومي ,, " نزار قباني وفي ندهة لمدينة عربية كي تخلع رداء الحزن الأسود وفي مرحلة صعبة حرجة من مراحل حرب أهلية حارقة استمرت سبعة عشر عاماً " ,, بين زمنين " وعلى حدود النار : من القادر على تحديد نوع الخطاب الأدبي والإعلامي والفني مع نهاية مرحلة وبداية أخرى ؟ , ما لون خطابنا على شاشات البث وأمواج الأثيرمثلاً وخطابنا المكتوب ثم خطابنا المسرحي الأقرب للحياة كما نراها ، ثم خطابنا عبر منصات التواصل ؟ - ، ما حال سلوكنا المعاش والحزن لم يفارق الديار – هل يخلع المرء ، ودفعة واحدة ، ثياب الحزن السوداء ويرتدي الثياب الزاهية مقيماً السهرات والحفلات ناثراً الأوراق والجوائزالمالية النقدية لتستر الجراح وأجساد الضحايا وأطلال البيوت وقد سوّيت بالتراب ، حاملاً البشرى " بأن كلّ شيء على ما يرام وأن الروح تعافت - ولو على مدار ساعة ونصف من زمن البث أم أن هناك ثياباً رمادية ؟
.. لقد قدّر لجيلي أن يشهد عربياً " وفي الفصول كافة شتاءً وخريفاً وصيفاً وربيعاً "أحداثاً كبرى أقرب الى الزلازل العنيفة وأحياناً الرهيبة يوم لم تكن هناك منصات للتواصل الإجتماعي ، قدّر له هذا مثلاً في عتمة الهزيمة عام سبعة وستين ، ثم إبان مشروع نصر اكتوبر بين الأمل عام ثلاثة وسبعين وواقع الخذلان ، فكيف سارت حياة الناس إبان النكسة مثلاً والتسمية " النكسة " متأثرة بأدبياتنا وخطابنا في ذاك الوقت ؟ ، لا شك إن ثمة فارقاً في سلوك الناس والخطاب الذوقي المقدّم لها بين مناخين : مناخ حرب نظامية تدوم أياماً قليلة بكل ضرواتها ، ومناخ يحياه وطن يكاد يتمزق أشلاء على مدار سنوات تسع أو عشر ، لا أنسى كيف تفاعل الناس ذات يوم - وكنت في سنتي الجامعية الثانية وفي الطريق لنيل درجة الإجازة العامة في الآداب قسم الصحافة - مع عرض مسرحي بعنوان " حفلة سمر من أجل خمسة حزيران " عندما أراد مؤلفه " الكاتب الأستاذ سعد الله ونّوس " وقد حلّت ذكراه منذ أيام ، وطمح مخرجه الأستاذ علاء الدين كوكش أطال الله عمره وأبدع ممثلوه ومنهم من رحل الى ديار الحق أو مازال نابضاً بيننا ,,
أرادوا جميعاً أن يجسّدوا الحالة التي نحياها أنذاك من خلال عرض تدور أحداثه مع مرور عام على الحرب ، إنها الذكرى الأولى للهزيمة وقد آثر منظمو الحفل وبقرار رسمي " هكذا تقول المسرحية " أن يقدّموا للمشاهدين في المناسبة مهرجانا غنائياً حماسياً منوّعاً أقرب لفن الفرجة ، وأين منه برامج المسابقات السخية والمنوّعة في أيامنا – لكن الجمهورفي الوطن الموجوع " كما تروي المسرحية " يتمرد في الصالة ويصرخ بأعلى صوته " لا ,, محال أن نقبل هذا العرض والدماء لم تجف بعد , صحيح أن البسمة تولد من رحم الأحزان ، ولكن ليس بهذه الطريقة ولا بهذا المستوى من التهريج ,, وينقلب العرض رأساً على عقب بإستيلاء الناس على المنصة وخشبة المسرح وبإقامتهم لعرضهم المختار العفوي والصادق وبإعلان رؤاهم لما حدث وروايتهم الحقيقية وليست الرسمية ,, ظلام الهزيمة كان مازال مخيّما يوم حضرت هذه المسرحية ثلاث مرات , وقبيل اندلاع حرب السادس من اكتوبر تشرين الأول عام ثلاثة وسبعين ومن ثم حرب الإستنزاف في الجولان يوم تسنى لي أن أتشرّف بكوني واحداً من عشرة إعلاميين دخلوا مدينة القنيطرة لحظة انسحاب القوات الإسرائلية وتسليم المدينة وهي تحترق ، وما أزال أتذكّر اندفاع طليعة شباب القنيطرة الذين بقوا في المدينة ست سنوات وهم يروون نصف الحكاية الآخر الذي يتمم رواية جمهور مسرحية حفلة سمر والذي أنهى العرض الرسمي المزيّف وفرض الرواية الواقعية ,,
- هناك ما يشبه القناعة الثابتة والقائلة " إن الحياة أقوى من أي حزن وينبغي أن تستمر وتجرف الأحزان حتى أثتاء الحروب ومراحل القتال لا بل والكوارث , ربما بدا هذا صحيحاً ، تستمر الحياة لا شك وحتى في غمرة الأحزان والمحن ولكن بأكثر المظاهر رصانة ، وحتى لو حظينا بمنصات التواصل الإجتماعي وهذه نعمة ينبغي أن لا يفرّط الإنسان بها وتكاد تماثل في أدائها ما فعله جمهور مسرحية حفلة سمر من أجل خمسة حزيران ، حيث يمارس الناس طقوسهم ويعبرون عن مواقفهم الملفتة في أيامنا وهم يراقبون صدى البرامج الترفيهية والربحية مثلاً والعروض الدرامية التي تبث على مدار الساعة,,
- وهناك مايشبه القناعة وثائقياً وتاريخياً أن ثمة فارقاً جوهرياً بين حال المجتمع وسلوك أفراده أيام الحروب التقليدية التي تدوم أياماً قبل سريان اتفاقات وقف إطلاق النار " كحرب الأيام الستة عام سبعة وستين مثالآً ، وحرب الأسابيع الثلاثة في السادس من تشرين الأول عام ثلاثة وسبعين " ، وبين زلزال يحياه وطن على مدار سنوات تسع مثلاً " كما الحال في بلدي الموجوع سورية " أو سبعة عشر عاماً كما الحال عند أشقائنا في لبنان الذي عاش حرباً أهلية ضارية ، لكني أميل الى تأمّل ما عاشه الأحباء في الجزائر وقد كُتب لهم أن يخوضوا التجربتين معاً " وقائع سنوات الجمر وصولاً لانتصار جبهة التحريروالثورة الجزائرية الكبرى واتفاقية إيفيان في مطلع الستينيات من القرن الماضي وإعلان الإستقلال بعد احتلال دام مائة واثنين وثلاثين عاماً " ثم تجربة السنوات العشر السوداء التي كادت تبدّل وجهَ الجزائر الحبيبة من بلد المليون شهيد الذي سكن فؤادنا في عهد الطفولة الى بلد المليون ذبيح لا قدّر الله لولا أن توقفت فصول الكارثة ,,
وها أنت تراهم في الحراك الأخير الواعي والراقي طلاباً ومحامين وعمالاً , فهل استفاد الناس من كل ما حدث ؟ ، لماذا لايستفيد الناس من مرارة ما حدث ويحدث في بلدي وفي المشرق العربي عموماً , وهو أشد حزناً ووقعاً من نار الهزيمة في عام سبعة وستين في حزيران وأشد هولاً من إعصار الثمانينيات ؟ لماذا لا يبدو فرحنا راقياً ورصيناً كحزننا الذي نأمل أن لا يطول ؟ ,, لماذا يضطر المرء منا أن يعتذر بحرارة مثلاً عن حضور حفل زفاف يقام في أحد الفنادق الفارهة - وفي غمرة الأحداث المرّة - وفيه من البذخ ما يؤلمك بحق ، ولماذا يواجه اعتراضاً وعتباً ورفضاً من أصحاب الحفل وهم يسألونه " مالك ؟ ، ألا تستمر الحياة ، ألستَ في الطريق لتزويج ابنتك أو ابنك مثلاً ؟ , أكيد, ولكن ليس بهذه الطريقة الفجة والناس تئن في بلدي وفي كل البلدان المثيلة اجتماعياً جرّاء الغلاء والعجز عن تلبية حاجات العيش الأولى فيما يغفو أبناؤهم عراة أحياناً على الأرصفة وفي الحدائق،
الذاكرة تسعفني بمشهد آسر في بداية فيلم اشتهر يوم كنا طلابا في المرحلة الإعدادية وحمل اسم معركة الجزائر ، عندما يخاطب مأذون جاء مسرعاً لعقد قران قائلاً " أبارك للعروسين بروحي وقلبي لكنّي أذكرّهما بأننا نحيا قي ظرف لا يتيح لنا احتفالاً واسعاً , أرجو أن تقبلوا دعوتي للإكتفاء بمظاهر الزفاف وعقد القران العادية امتثالاً للظروف " . - لاشك أنك معني بملايين الناس الذين يشبهونك وتشبههم وأنت تسترجع هذا المشهد من فيلم ، ولستَ معنياً بمن يريد تزويج حفيدته أو ابنته في حفل اسطوري يقام في عاصمة أوروبية وبلده الأم جريح نازف مثلاً – والان تحديداً ؟ - حقيقة أخرى أراها جارحة ، وفي غربتي أيضاً ، عندما أًصغي مصادفة لحوار فئة شابة صغيرة تنتمي جذوراً لبلدي وفي عمر أولادي وفي مكان عام وهم لا يعرفون أن هناك من يقف قريباً منهم من جيل آخروينتمي لبلدهم ولغتهم يصغي اليهم مصادفة ، تراني أمام هذا المشهد أردد وقد تملكني الحزن العميق " يا للهوان " .
أقولها وأنا أرى عدداً منهم يتصرف بأسلوب غير لائق ولا مقبول سيما وهو من أبناء وطن متألم حتى العظم وأين ؟ في بلد حنا عليه علماً ورعاية ككندا مثلاً ، ثم لا ألبث أن أصغي لدقات قلبي وهي تنشد مع شاعر عربي وباللغة المحكية يجسّد معاناتهم مع أهلهم قبل المجيء قائلاً " ما تغربيناش وتقولي قدر ، ما توهيناش في مواني سفر ، حتجيبي منين زيّنا عشاق ، في قلوبنا حصاد وعينينا مطر" ,,, كم أتمنى لو أرفع يدي عالياً لتعانق هؤلاء وغيرهم وغيرهم وأهتف متأثراً بكلمات رأت النور في عتمة الهزيمه ذات يوم عندما أنشد شاعر آخر باللغة المحكية " أبداً بلدنا للنهار ، بتحب موّال النهار ..ألا يمكن أن ننهل من العلم ما يتاح تماماً كما ننهل من الحياة في بلد النهار ؟. مروان صواف .. مساء العشرين من مايو أيار 2019 – سان لوران – مونتريال – كندا ..