بيوت القهوة في دمشق
الباحثة المهندسة/ هالة قصقص
تتميز القهوة عن غيرها من المشروبات بتاريخ ثقافي في العالم العربي/الإسلامي لا يمكن أن نجد له مثيلاً في الشاي أو المتّة أو غيرها من المشروبات الأخرى التي جاءت من موطنها الأصلي إلى هذه المنطقة. وربما كانت طبيعة المشروب والهيئة التي كان يشرب فيها وراء هذه الاختلاف الواسع في الموقف من القهوة والجدال الكبير الذي حصل بسببها والذي قسّم الفقهاء خلال عدّة قرون. لم يكن للقهوة أن تمر بما مرت به من جدال التحليل والتحريم لو أن الذين اهتدوا إلى هذه النبتة منحوها اسماً غير الاسم الذي منحوها إياه، فالقهوة لغوياً هي اسم من أسماء الخمر في الجاهلية فلم يكن للقهوة أن تغري الناس بما أغرتهم من لهو في مجالسها في الأماكن العامة التي كانت تسمى "بيوت القهوة" لو لم يكن الاسم الذي حملته يفضي إلى ذلك كله. يروي لنا المؤرخ الدمشقي ابن طولون (ت942ه-1545م) أول معلومة عن شرب القهوة في دمشق بمناسبة زيارة قاضي مكة وشيخ الحرم ابن الضياء (ت942ه-1534م) لدمشق فيها فترة من الزمن. فقد ذكر ابن طولون أن ابن الضياء ذهب عند الشيخ علي الكيزواني لسماع المولد النبوي وشرب مع الجماعة "القهوة المتخذة من البن"، ويعلق على ذلك بالقول "ولا أعلم أنها شربت في بلدنا قبل ذلك"، والأهم من هذا حديث ابن طولون عن الشيخ علي بن محمد بن عراق نفسه، الذي جاء دمشق أيضاً سنة (947ه/1539م)، وأشهر شرب القهوة فاقتدى به الناس وكثرت حوانيتها في ذلك الوقت. تشير الدراسات التاريخية إلى أن ظهور أنماط من الفعاليات الاجتماعية المرتبطة بشرب القهوة في فضاء المدينة العام في العالم دمشق قبل ظهورها في أوروبا، حيث ظهرت في النصف الأول القرن السادس عشر محلات عامة تجارية لخدمة شرب القهوة، ويرجح أن ظهور المقاهي في دمشق كان في النصف الأول من القرن السادس عشر. ذكر العديد من المؤرخين في القرن السادس عشر وجود المقاهي بكثرة في دمشق، وهناك إشارة واضحة لدى الغزي تفيد بوجود "بيت للقهوة" في محلة السويقة بدمشق قام بفتحه وبيع القهوة فيه الشيخ محمد اليتيم قبل سنة 976ه/1568م، كما تكشف المصادر عن قيام الوالي درويش باشا ببناء "بيت للقهوة" في جوار السوق الذي أنشأه سنة 980ه/1572م بدمشق قرب الجامع الأموي، وذلك في إطار وقفه الضخم الذي اشتمل على حمام وقيسارية وجامع. وهناك مكان معد لطبخ القهوة في سوق السباهية أو سوق الأورام الذي أضيف سنة 983ه/1574م إلى الوقف الضخم الذي أنشأه الوالي أحمد شمسي باشا خلال وجوده في دمشق (985-962ه/1550-1554م). وفي السنوات اللاحقة قام الوالي مراد باشا (ت1020ه/1611م) أثناء وجوده بدمشق (1001-1004ه/1592-1595م) ببناء مقهى في جوار السوق الذي أنشأه عند باب البريد ضمن وقفه قرب المسجد الأموي. وتدل وثيقة تحمل تاريخ العام 1004ه/1596م على أن والي دمشق سنان باشا أوقف ثلاث مقاهٍ على منشآت دينية، والمهم في هذه الوقفية أنها تحدد موقع بيت القهوة الأول في سوق العمارة والذي لايزال موجوداً في دمشق، والثاني في سوق السنانية، بينما أنشأ الثالث في خان عيون التجار، الذي كانت تقصده القوافل لأهميته التجارية لأنه كان يفترق منه الطريق القادم من دمشق إلى اتجاهين: القدس جنوباً ومصر غرباً. وقد ساهمت هذه المقاهي الممارسات الاجتماعية المتعلقة بشرب القهوة بانصهار الفوارق الطبقية في المجتمع، وحتى التقطيع العمراني الذي ميّز محلات الأعيان عن العامة، بدأ بالتلاشي بعد أن أصبحت الشرائح الاجتماعية التي تجتمع على شرب القهوة خارج إطار التمييز المكاني العمراني، ضمن خليط من طبقات المجتمع لا تميز بين الأعيان والعامة، أو بين الفقراء والأغنياء، الأمراء والفقراء وكافة طبقات المجتمع.