القيم الجمالية في حديقة الفناء الداخلي للبيت الدمشقي بقلم الباحثة المهندسة هالة قصقص
القيم الجمالية في حديقة الفناء الداخلي للبيت الدمشقي بقلم الباحثة المهندسة هالة قصقص
لقد جاء تصميم فناء البيت الدمشقي متوافقاً مع المتطلبات الاجتماعية والدينية، حيث جاء ملائماً لاحتياجات الحياة الاجتماعية ومعتقدات الأسرة الدمشقية، وأفكارها وعاداتها وتقاليدها، حيث وفر الفناء الداخلي للأسرة بشكل عام، وللمرأة بشكل خاص حديقة داخلية تمتلك كل مقومات الحدائق الخارجية من عناصر وغيرها، فكان استخدامه وظيفياً وجمالياً ليتناسب مع حياة الأسرة المسلمة التي تقضي معظم أوقاتها داخله، وخصوصا النساء .
لقد طرحت مسألة ارتباط العمران بالقيم في العمارة الإسلامية بشكل أو بآخر، وعلى هذا فإن العمران الإسلامي هو الإفراز المادي على الأرض لمجموعة القيم المتدرجة التي جاء بها الإسلام والتي تبنتها المجتمعات المسلمة عقيدة وسلوكاً باختلاف المكان والزمان اللذان وجدت فيهما، وانعكست هذه القيم على تشكيل حديقة الفناء الداخلي للبيت الدمشقي بشكل كبير، والتي تُعد صورة مصغرة جميلة للطبيعة، توفر للساكن السكينة والراحة والنفسية، قدمته أجدادنا من العرب القدماء الموغلون في الحضارة، جواباً فنياً على هذا الواقع المناخي من خلال هذا الفناء عدا دوره في اعتباره كمركز للنشاط الاجتماعي للعائلة واستقبال الضيوف وغيره، ويمكن تصنيف القيم التي جاء بها الإسلام والتي أثرت في حديقة الفناء الداخلي إلى ثلاثة أقسام رئيسية وهي : القيم الإلهية والقيم الإنسانية والقيم البيئية. وهذه الشروط الأساسية التي أكدها ابن خلدون في مقدمته واعتبرها الثوابت في إنشاء المسكن وهي : المناخ والعقيدة والعادات، وهذه الشروط حققت للبيت الدمشقي ثلاث أشياء أساسية هي الراحة والأمن والجمال :
• الراحة : تشمل الراحة الجسدية، كمطلب عضوي لا بد منه بعد تعب اليوم الشاق، والراحة النفسية كمطلب ازداد بعده أثر التقدم المدني عبر التاريخ .
• الأمن : ويشمل حماية الإنسان من الاعتداء عليه، أو من أخطار الطبيعة والمناخ من برد وحر، وأخطار الحياة العصرية من التلوث والأوبئة .
• الجمال : وهو الهدف المعماري القديم، الذي أوجده الإنسان منذ القدم، واستطاع أن يضع أسس وقواعد جمالية، اعتمدت على قواعد وإيديولوجيات الشعوب .
جاء وصف حديقة الفناء الداخلي للبيت الدمشقي في الكثير من المواضع، عن طريق الرحالة والمؤرخين، فهذا الصيادي يصفها أجمل وصف فيقول: (إن البيوت في دمشق وترتيب بنائها على أجمل طراز وترتيب، لم يكن لها نظير في جميع البلدان، وهو أن كل دار لا تخلو من وجود إيوان قبلي وبه بركة ماء في منتصف دياره، يأتي إليها الماء ضمن قساطل فخار محكمة من مقاسم نهر القنوات وغيره كل على حسبه ... وأماحديقة الفناء الداخلي فإنها مغروسة بأنواع أشجار الليمون الحامض والحلو والبرتقال والكباد والطرنج والنارنج والكرمنتينا والأفندي، ومزروعة بأنواع الأزهار والزنابق والورود والرياحين والياسمين البديعة المنظر والشذية الرائحة العطرة والخميسات والشمشير والورق الأخضر العريض والفل والنرجس والليلكي وغيرها كثير، حتى أن أصحاب هذه البيوت هم بغنىً عن التوجه إلى المتنزهات ولا سيما أصحاب البيوت الكبار وذوو الاقتدار.)
يجد المتتبع لحديقة الفناء الداخلي في البيت الدمشقي ارتباطه الوثيق بمفردات ومفاهيم انعكست من المؤثرات الاجتماعية والثقافية, وتأثرت تأثراً واضحاً بالنصوص الدينية، ففي القرآن الكريم ذكرت، أوصاف الجنة في قرابة المائة والأربعين موضعاً، استنبطت منها مفردات ومفاهيم لتصميم الفراغات الحدائقية في بيوت مدينة دمشق، ومن أهم هذه المفردات ما يلي :
1. حتمية وجود العنصر المائي :فالماء هو مصدر كل شيء حي، وقد انعكس ذكره في القرآن الكريم على حديقة الفناء الداخلي للبيت الدمشقي، فظهر الماء في صورة أحواض رباعية وثمانية بالإضافة إلى قنوات متعامدة أو محورية، وفي شبكة هندسية للري بالإضافة إلى نافورات دائرية مفصصة. توضع العنصر المائي في حديقة الفناء أمام واجهة الإيوان وأقرب له وفي منتصف محور قوسه الكبير، أما مواد بناء أرضية العنصر المائي فهي من الآجر المشوي, رصفت فوقها الحجارة المقطعة الكلسية أو البازلتية السوداء، وغلقت جدرانها من الخارج بالأحجار البلدية أو الرخامية يصب الماء في البحرة من كأس حجري يكون في وسطها أو من مناهل حجرية أو نحاسية تكون على أطرافها, تدعى سباعاً، لأنها كانت في الأصل تُصنع على أشكال السباع، وهي متصلة بالقساطل الممدودة تحت الأرض.
2. وفرة الزروع والنباتات المثمرة: وجاءت مقاربة لوصف القرآن للجنة وزروعها وثمارها، فكثرت زراعة الأشجار والنباتات العطرية والأعشاب الطبية, وزرعت الأزهار والورود في حدائق الأفنية الداخلية, فجاءت هذه الزروع على هيئة أحواض ومسطحات وتقاسيم رباعية داخل أحواض منتظمة .
3. خاصية الظلال: يوصف ظل الجنة بدوامه وامتداده، وتنعكس خاصية الظلال بحديقة الفناء الداخلي للبيت الدمشقي، نتيجة لنسب الفناء الداخلي حيث يزيد ارتفاعه عن عرضه، وأيضاً نتيجة الأشجار الكثيفة والممرات المسقوفة والإيوان.