الجهابذة المُتكَلِسُونْ.. بقلم معتز أبوكلام
بعد نشر المقالتين الأخيرتين، وعنوانهما: " سادية التطرف اليميني ووجوب الخروج من دائرة الخطر" و " خطبة الجمعة وجدار الصمت" وبعد تباين ردود الأفعال بين أغلبية صامته تخشى كسر عصا الطاعة، وعدد لا بأس به من الداعمين للفكر الإصلاحي، وفئة من المناوئين المتشددين والذين بدا لي من خلال قراءة ردود أفعالهم على وسائل التواصل الإجتماعي بأنهم يقرؤون ولا يفهمون ما يقرؤون، أو يقرؤون ويفسرون الكلام كما يشتهون أو على قدر ما رشح في عقولهم المنغلقة، أو أنهم يدافعون بعلم أو من دون علم عن أوهام وهواجس يحسبونها من الدين والدين الصحيح منها براء.
في هذه المقالة أود أن أسلط الضوء على هذه الفئة المتشددة، وهي للأسف فئة كبيرة العدد قليلة العقل والفكر، كثيرة الصراخ والنواح، قليلة الإنفتاح وعدوها الدائم الإصلاح والمصلحين. معضلة هذه الفئة أنها تعتبر سلوكها هذا إنما هو تمسك وقبض بالنواجذ على الدين، لكن واقع الأمر وحالهم هذا يعبر عن إستعصاء فكري وحالة من الهوس الديني والإنسداد العقلي لدرجة أنهم لم يعد بمقدورهم رؤية الخير وتَقبل النصيحة. هذا الإستعصاء الديني هو الخطر الحقيقي على الدين نفسه، تماماً كما يحصل الإستعصاء في آلة ما، فيصبح من الصعب بمكان تشغيلها مالم يتم تفكيكها وإعادة تركيبها وتزييتها من جديد. مشكلة هذه الفئة أنها تظن بأنها تدافع ببسالة عن الدين الحنيف خشية أي تغيير مهما كان، لكن في حقيقة الأمر، هي لا تدافع عن الدين بل تدافع بشراسة عن الطبقة المتكلسة من هذا الدين، فمثلاً وبعد المشادة مع أولئك والصد والرد معهم عبر وسائل التواصل الإجتماعي حول تطوير خطب الجمعة بحيث يسمح للحضور وبشكل منظم السؤال والإستفسار من الخطيب أثناء خطبة الجمعة، حسبت بدايةً أنني أبتعدت كثيراً عن محور الدين، لكن بعد أن هداني الله لأدلة شرعية تُثبت وتدعم ما ذهبت إليه في بحثي الموسع، حمدت الله كثيراً أن ألهمني أن أكتب ما كتبت وفصلت، ثم تيقنت بأن أولئك الجهابذة بدفاعهم المستميت كانوا إنما يدافعون عن أراء متكلسة ليست من صلب الدين بشيئ، بل ما أذهلني هو أنهم ازدادوا شراسةً بعد أن ألقيت في وجوههم تلك الأدلة الشرعية القاطعة التي تدعم ما ذهبت إليه، فبدلاً من أن يستدركوا جهلهم تمادوا في تصلبهم وتحول الجدال العقيم إلى انتصار للذات فأثبتوا بأنهم على ضلال مبين. ومن ناحية أخرى تجد بأن هذه الفئة نفسها هي المدافعة دوماً، عن أراء وفتاوى مضى عليها ألف عام بل يزيد، تلك الفتاوى التي إنما وُضعت لأهل زمانها وكانت صالحة ومناسبة لظروفهم وعقولهم وبيئتهم، والإستعصاء الحاصل الآن، أننا نعيش في القرن الحادي والعشرين وبيننا أناس مصرون على أن يمارسوا دينهم بعقلية من سبقهم إلى رحمة الله منذ ألف سنة وأكثر،
أقول لهؤلاء الأخوة، إن المشكلة لا تكمن في تلك النصوص ولا تلك الفتاوى ولا في علماء ذلك الزمان، بل المشكلة أنتم يا سادة وعقولكم المتكلسة لأنكم مُصرون وبشكل أعمى على أن تلبسوا ثوباً لم يفصل لكم، ومتشبثون بفتاوى لا تناسب شؤونكم ولا طبيعة حياتكم ولا ظروفكم بل تفرضونها فرضاً في أنوف مجتمعاتكم ومن يخالفكم تحكمون عليه بأنه خارج عن الدين. الطامة في الأمر أنه بتعنتكم هذا ووضعكم عصا التخلف في عجلة الإصلاح، تُصيبون الدين في مقتل وأنتم لا تشعرون. الطبقة الصدئة التي تراكمت عبر مئات السنين فسممت عقول أجيال كثيرة ونجم عنها التشدد والتخلف والإنطواء وكراهية الأخر، هي نفس الطبقة التي ما تزالون تستسيغونها وتقتاتون عليها بعقولكم وقلوبكم فأصبحتم تدافعون عنها بشراسة كدفاع المدمن على الأفيون. واجب كل مصلح وهبه الله البصيرة والحكمة والفكر السليم أن يدافع عن جوهر الدين والإيمان الحقيقي بخالق هذا الكون ليخلصه من براثم هؤلاء الطغاة المستبدون الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا. وأشهد الله بأن أولئك هم أعداء الدين الحقيقيون الذين صادروا دين الله وكبّلوه وأسروه وحشروه في زوايا النصوص والمفاهيم التي عفا عليها الزمان.
أُهيب بكل العقلاء وبكل المنظمات الإسلامية وعلى رأسها منظمة المؤتمر الإسلامي ورابطة العالم الإسلامي والأزهر الشريف ووزارات الأوقاف في الدول الإسلامية، كما وأهيب برجالات وعقلاء الأمة والعلماء العاملون أن يأخذوا خطوات حقيقية ويتصدروا المشهد ويؤدوا دورهم المنوط بهم وأن لا يكتفوا بأن يكونوا شهوداً على ما قدمه أسلافهم من فكر وأراء وفتاوى لأهل زمانهم بل عليهم أن يقتدوا بهم بالإجتهاد فيقدموا هم أيضاً فكراً جديداً يناسب أهل زمانهم. ينبغي أن يعيدوا النظر في موروث هذه الأمة، فيحيدوا منه ما لم يعد صالحاً بل أصبح ضاراً بأهل هذا الزمان، "والثوابت" لا خلاف عليها ولكن هناك تشعبات وتفرعات كثيرة ألقت بظلها الثقيل على الثوابت نفسها حتى أرهقتها فأصبح الناس يقدسون النصوص والتشعبات ويتقاتلون من أجلها فحولوا الدين إلى معركة وعبئ ثقيل. ديننا يا سادة بسيط، وإذا كنا نعتبره مناسب لكل زمان ومكان فهذا لأنه بسيط، ولكن أن نُبقي الموروث الثقيل بكل إفرازاته جاثماً على صدور وعقول ومفاهيم الناس، فهذا والله سيجعل الدين بوضعه المستعصي هذا غير صالح لا لزمان ولا لمكان بعد الآن. وإذا ما استمر الحال على ما هو عليه، ولم تؤخذ الإجراءات وتوضع الإجتهادات والتوجيهات اللازمة، فستُعرض الأجيال القادمة عن هذا الدين لا محالة. وستكون نهاية هذا الدين حتماً على يد من يدّعون بأنهم حراسه وحماة رسالته. هذه رسالتي أضعها على مسؤوليتي الشخصية والله من وراء القصد.
بقلم معتز أبوكلام