مسافة أمان في زمن الفوضى بقلم الإعلامي القدير الأستاذ مروان صواف/ أيام كندية

ما أقرب البارحة إلى اليوم، ما أزال أتذكر تماماً ظروف الانتقال منذ سنوات أربع ونيّف بين قارتين اثنتين وأنا أبحث عن مسافة أمان، وأبدو قادراً على استعادة مشهد الرحلة على متن طائرةِ تابعة لإحدى شركات الطيران الكبرى في الوطن العربي، حيث تم حشرنا كأشخاصٍ ثلاثة في مسافةٍ ضيقة تستوعب شخصين اثنين بالكاد، الرحلة دامت خمس عشرة ساعةً متواصلة للوصول إلى مدينة مونتريال عن طريق مطار تورونتو، وكيف كنت مطالباً بإملاء استمارات ما قبل الهبوط وسط هذا المكان الضيق جداً، وكم سبب لي هذا الموقف حرجاً أمام موظفي الأمن وهم يستلمون وثائق رحلتي التي لم أستطع إملاء أهم أوراقها براحة بسبب ظروف الرحلة، كانت تلك المرة الأولى التي أشعر فيها بقيمة ما نسميه عادةً بمسافة الأمان، أستعيد هذا المشهد وأنا أحيا وعائلتي في شقة صغيرة تضمن سلامتنا في عزلةٍ قاسية منذ ثلاثة شهور .. مسافة أمان تبدو كالبحث عن يقين في مواجهة داءٍ قاتل، وأجد نفسي الآن مأخوذاً بدراما عربية تلفزيونية ضمن عروض شهر رمضان المبارك وفي مسلسلٍ يحمل اسم "مسافة أمان"، وقد تذكرتُ، وقبل الخوض في ظروف العزلة، عبارةً مؤلفة من كلماتٍ ثلاث وتدور على ألسنة الأخوة الأحبة في المنطقة الشرقية في سورية الحبيبة، تقول العبارة " المسافة ولا الحسافا"، ويعرف الكثيرون المقصود بالحسافا وهي الحسرة أو الندم، بمعنى أن علينا أن نتقيد بالمسافة خشية الحسرة والحزن والضياع حيث لا مكان للحسرة ولا الندم، ولا شك أن البحث عن مسافة الأمان هذه تأخذك في عزلتك إلى استثمار الوقت المديد ما أمكن، فلا تجد أمامك إلا واحداً من خيارين اثنين: إمّا الذهاب إلى عالم الكتاب والقراءة وقد حدث هذا، وإمّا الجلوس بثبات أمام الشاشة الصغيرة لمتابعة دراما رمضان التلفزيونية وبكل مافي الدراما الرمضانية من مذاقٍ متنوع، عدا عن مسلسل "مسافة أمان" حيث أخذتني إليه مسألةٌ أخلاقية وهي كيف يقدم المرء على إسداء خدمة في قضية حساسة، ثم يطلب ثمناً باهظاً لخدمته؟ 
شاهد برومو وتصفح العدد الجديد من مجلة أيام كندية 
العدد الثاني والثلاثون
 
بحرٌ من القضايا يطرحها هذا المسلسل الجميل وأرجو أن أوفق في العودة إليه في وقتٍ قادم، ويأخذني إليه أيضاً ومن روح هذه المائدة الرمضانية بمذاقها المختلف بين صنفٍ وآخر مسلسلٌ بعنوان سوق الحرير حيث أحيا وعائلتي مآساة سيدةٍ فقدت الوعي وهي تنجب, وهي تعرف تماماً أنها حاملٌ بجنين واحد، وأفاقت لترى أمامها رضيعين اثنين، فأخذت تردد بذهول: لقد أنجبت ابناً ولكن لمن الثاني؟ فيأتيها الجواب: عليك أن تُرضعي الاثنين دون سؤال، فقد توفيت الأم التي أنجبت الثاني أثناء الولادة، ينبغي أن لا تسألي من هو الطفل بين الاثنين.. وعليه ستبنِى القصة في سوق الحرير الذي يذكرني الى حدٍّ ما بمسلسل عايش أحداثاً قوميةً حارة ذات يوم وحمل اسم "خان الحرير"، وأرى ذاتي وأنا في رحلة المتابعة هذه أمام مسلسلٍ ثالث بعنوان "ورد أسود"، ويصيبني العنوان بالدهشة والذهول إذ كيف يكون الورد أسودَ قاتماً، والورد وردٌ فوّاح بالعطر اعتدناه أحمر اللون، ولم نعرف للورد سواداً ولا قتامة ولا عتمة، ثم يُطلّ عليّ كمشاهد ما يمكن أن أعتبره بثقة وبيقين نوعاً من الفيروس الذي يضاهي خطورة الفيروس التاجي كورونا ولكن في المذاق البرامجي هذه المرة، هل حدثكم أحدٌ ذات يوم عن فيروس الكاميرا الخفية التي اعتادت محطات البث تقديمه في الشهر الكريم في كل موسم، نعم، فقد تحول هذا التقليد أميركي المنشأ الذي أطل بظرافة في عقد الستينيات من القرن الماضي تحت عنوان ( The Candid Camera)، ولكنه انتقل فيما بعد و كالعدوى، وكما الحال في عدوى الفيروس، إلى شكلٍ آخر متحولٍ إلى الأرض العربية، واستأذن قارئي الكريم في أن أوجز إلى حد ما مثالاً أو أكثر من الكاميرا الخفية، ففي موسمٍ رمضانيٍّ ماضٍ ومنذ سنوات بعيدة وقبل ظهور الكورونا بكثير اختارت بعض أقنية البث أن تقدم لنا برنامجاً بعنوان الكاميرا الشقية، برنامج عربي قادمٌ من المحروسة الحبيبة مصر دون أن يحظى بموهبة أبناءها الخلاقة، حالة أخرى تتيح لنا مشاهدة، وهذا هو مثالي، سيدة بعمر أمهاتنا تدخل متجراً لبيع المجوهرات لشراء هديةٍ لابنتها، ومع دخول هذه الأم الوقور يداهمها البائع (وهو موظف الكاميرا الخفية) بالقول: أهلاً لقد وقعت أخيراً، ها أنت هنا مرةً أخرى، ولن تستطيعي تكرار ما قمت به سابقاً وسط انشغالي حيث سرقت خاتماً أنتظر إخراجه فوراً وإلا سأقوم بتسليمك لقوات الأمن .. و تدهش السيدة وتنساب أول دمعةٍ على وجنتها وهي تقول : حرام عليك يا بني، أنا لا آكل مالاً حراماً، لست أنا من تقصد، فيجيبها البائع المزيف: أنا على يقين أنك المقصودة وكلكن تقلن هذا عادةً،  وتصرخ الأم باكية راجية والدموع تملأ وجناتها: يا بني أنا في عمر أمك وهذا لا يليق وبعد إصرارٍ من اللاعب المنتسب إلى فريق الكاميرا الخفية يقول لها وفي الآخر وبعد عذاب مُضنٍ: طيب يا حاجة، هذه هي الكاميرا الشقية، انظري هناك، فتنظر باكية بحيرة يميناً وشمالاً وهي تردد العبارة: كاميرا ايه وشقية ايه يابني؟! ما أزال أتذكر المشهد وأحسُّ بوجداني يُصفع كلما استعدت المشهد، ونظل وعلى امتداد سنواتٍ نتلقى تجارب الكاميرا التي تشقينا فعلاً ولا ترسم البسمة على ثغورنا فأصل هذا العالم إلى رؤية لاعب خطير أعتقد أن اسمه رامز وقد رأيت جزءً من المشهد في أخره عندما أوثق وبالحبال بضحيته بطريقة ما ثم كشف عن هويته كنجمٍ مشهور يمارس هذه اللعبة كل عام وقال للضحية: قولي إني أحبك يا رامز كي أحل الوثاق، قولي إنني اسامحك كي أطلق سراحك، ادع الله من أجلي، فتدعو الله، فيقول لها لا فقد دعوتي عليّ وليس لي.. حفلٌ من التعذيب تتوالى فصوله أمام عينيك ومتى؟ في زمن عزلتك وأنت تحتاج إلى غذاءٍ روحيٍّ باسم، في زمن الفيروس التاجي، في هذا الوقت نقدم هذا؟! و يخرجني من مأزقي برنامجٌ صغيرٌ خفيف الروح، كي أكون أميناً في رسم المشهد بحدوده، اطلالة جميلة لفتاةٍ في عمر الأبناء تقوم بقيادة سيارة أجرة، وبكاميرا صريحة هذه المرة وعنوان البرنامج "تكسي رمضان".. عشر دقائق من المتعة النظيفة الخالية من أي تهريج تتخللها أسئلةُ تستثمر حضور الراكب وتمنحه جائزةً مالية في النهاية بعد أن تطلب منه أحياناً إن لم يعرف الجواب أن يقدّم حكاية ظريفة أو فزورة رمضانية، أو مقطعاً غنائياً جميلاً يختاره.. نموذج للبرنامج الرمضاني الخاطف والأقرب لقطعة حلوى بعد الإفطار مباشرةً.. ثم أجد نفسي مستسلماً للقراءة وفق ما أستطيع في تتمة السهرة وإذ بي ألتقي بخبر مهم عن أثر النبوءة في مقاومة الفيروسات القاتلة، هي رواية قدمها باحثٌ في الفلسفة الحديثة يدعى إسماعيل مهنانة وهو يحرّض عقلك للسؤال عن هذه الرواية وعن أثر الفلسفة العميقة فيها، عنوان الكتاب "هالوسين"، يتنبأ فيه الكاتب بظهور فيروس ينتقل بالهواء وتربط أصوله الجينية بالأصول الاثنية وبعلم الأجناس، رواية جديرة بالتوقف قدمها مؤلفها في العام الماضي ألفين وتسعة عشر وصدرت عن دار طباعة جزائرية وهي جنسية الكاتب واستدعت توقف أقنية البثّ عندها في تقارير عدة، تأخذني فكرة التأثر بعلم النبوءة في فهم هجمات الوباء، أي وباء إذا شئنا، تأخذني مثلاً إلى عالم الاستاذ نجيب محفوظ الذي تنبأ في الفصل الأول من ملحمة الحرافيش بمبدأ العزلة الاجتماعية عن طريق شخصية عاشور الذي اكتسب لقب عاشور الناجي فيما بعد بعد أن أدركه الإلهام بضرورة مغادرة البلدة الموبوءة إلى قفار الصحراء ومكث في الإنتظار إلى أن حمل الوباء عتاده ورحل، وعاد عاشور إلى بلدته ليجد المكان خالياً تماماً من أي أثرٍ للحياة البشرية بما في ذلك الزوجة الأولى والأبناء وأكاد أتصوره وهو يصرخ، يدفعني نحو العودة لقراءات ودراما رمضان في آن معاً وأنا أتذكر العروض النبيلة التي ذهبنا اليها ذات يوم على يد فارس الدراما الراحل أسامة أنور عكاشة وأمثاله، فأخذت أردد مع أبطال مسلسل ليالي الحلمية وبصوت المغني محد الحلو العذب: 
ليه يا زمان ما سبتناش أبرياء 
وواخدنا ليه في طريق ما منوش رجوع 
أقسى همومنا يفجر السخريات 
وأصفى ضحكة تتوه في بحر الدموع 
ومنين ياخدنا الأنين
 لليالي ما الهاش عنين 
فإلى أي تأخذنا حالة الجائحة الجديدة الكورونية والى أيّ مدى وأين المفر بحثاً عن مسافة أمان قد تتجاوز العزلة؟.. 
 
كتبها مروان صواف، سان لوران مونتريال كندا، عشية الرابع والعشرين من رمضان المبارك الموافق للسابع عشر من مايو أيار ٢٠٢٠، مجلة أيام كندية.  
 

مواضيع ذات صلة