4 سنوات في سفينة مهجورة.. عذابات بحار سوري تخلى عنه مالك السفينة

23-10-21

 
في كل عام يتخلى العشرات من مالكي السفن عن سفنهم، تاركين أفراد الطاقم عالقين على متنها، وبسبب الإفلات من العقاب السائد في أعالي البحار، ينتظر الطاقم -وقد يصل الأمر لسنوات- أخبارا عن مالك سفينة مفقود تركهم مسؤولين عن سفينة محرومة من الوجود القانوني، وتنهار غالبا وتغرق في الديون، ليُحكم على الطاقم بالتجول دون التمكن من العودة للوطن بسبب نقص الأوراق اللازمة للنزول في بلد أجنبي وعدم توفر الوسائل الكافية لدفع ثمن العودة للوطن الأصلي.
 
تلخص صحيفة لاكروا (La Croix) الفرنسية في هذه السطور جانبا من محنة يعيشها حاليا ألف رجل حول العالم، وفقا لشركة لويدز ليست (Lloyd’s List) المتخصصة، وقد عاشها الشاب السوري محمد عائشة، الذي ظل عالقا 4 سنوات على حطام سفينة على السواحل المصرية، قبل أن يروي للصحيفة قصة عودته من الجحيم.
 
يقول هذا الشاب في التحقيق الطويل الذي أعدته لويز فرانسوا للصحيفة، إنه حُكم عليه بمشاهدة الوقت يمر من بعيد وهو خارج مسيرة العالم لمدة 4 سنوات، وإن شعر بالارتياح عند عودته إلى الوطن فإنه كان أيضا غاضبا لأن "اللحظات الضائعة لا يمكن تعويضها"، كما يقول.
بعد أن غادر محمد عائشة سوريا ماتت والدته وجدته وعصفت الحرب ببلده، وانتشرت جائحة كورونا في كل أرجاء المعمورة، وهو لا يسمع إلا صرير ألواح السفينة الشرير كلما هبت الرياح على قناة السويس، يقول "أظن أنني أسمع أصواتا؛ صحتي العقلية تتدهور تدريجيا، الجحيم لا ينسى".
 
بدأت رحلة محمد عائشة الكارثية في أغسطس/آب 2017، عندما ترك المالك سفينة الشحن "أمان" التي يشغل فيها منصب القبطان الثاني، ولم يعد من المسموح للسفينة التي تقطعت بها السبل قرب ميناء السويس المغادرة، وهكذا وجد البحار الشاب القادم من طرطوس نفسه محاصرا في سفينة أشباح بعد أن صادرت السلطات المصرية جواز سفره، وتركته تحت رقابة شرطة السويس للتأكد من بقائه على متن السفينة البائسة.
 
▪︎ علامات تحذير
 
كان محمد عائشة سعيدا بصعوده قبطانا ثانيا في 24 من عمره على متن السفينة "أمان" في رحلة تجارية مدتها 18 شهرا، ينتقل خلالها في ما يشبه المغامرة من ميناء إلى ميناء، في سفينة شحن ليست جديدة تماما ولكنها بحالة جيدة.
 
يشعر الشاب ببعض القلق وهو يغادر الساحل السوري، تاركا عائلته في بلد تعصف به الحرب، آملا أن يساعد والديه مع علمه -كما يقول- أن "السعادة لا يمكن أن تكون الهدف من ركوب البحر، لأنه لا أحد يعرف ما سيقع، ولكنه يعرف أنه يجب التعامل ما سيكون".
 
بعد أسابيع قليلة، بدأ الكابوس يتبلور شيئا فشيئا قبالة الساحل السوداني، عندما توقف المالك عن الرد على الهاتف، وبدأت الشروخ الأولى تدب بين الطاقم الذي بدأ يتعرف على بعضه البعض، وبدأ القلق يكبر كلما توغلت السفينة في البحر.
 
يشكو أحد البحارة -كما يورد التحقيق- من تأخر راتبه شهرين ويتشاجر مع مالك السفينة، ثم ينتهي النزاع الذي كاد أن يصل إلى الاشتباك بالأيدي بدفع مبالغ للبحار. يقول محمد عائشة "كان يجب أن تنبهني هذه الحادثة، أنا شخصيا لم أتقاض أجرا منذ صعودي إلى السفينة، لكن ذلك لم يقلقني لأن عائلتي لا تزال تعيش على علاوة مهمتي السابقة".
 
وبعد أن وصلت السفينة إلى القرن الأفريقي، بدأ البحارة يواجهون الحقيقة، إذ لم يعد يدفع لأي منهم، حيث تخلى مالك السفينة تدريجيا عنها. وقال كبير المهندسين ذات صباح "لم يعد هناك وقود"، وحيث لا بنزين فلا يوجد مولد كهربائي ولا ثلاجة ولا مكيف في وقت تتجاوز فيه درجة الحرارة 50 مئوية، والأسوأ أن "مالك السفينة استمر في تأجيل شحنات الطعام ومياه الشرب، ولم يبق لدينا شيء. كان الأمر مخيفا للغاية، وفي الليل يحاول البحارة الصيد وفي النهار يبقون في صمت وعقولهم مظلمة وبطونهم خاوية بسبب الجوع".
 
▪︎ مالك سفينة هارب
 
يكرر محمد عائشة باستمرار "ما كان يجب أن أركب على متن السفينة أصلا"، بعد أن استأنف اليوم دراسته البحرية لتولي منصب القبطان؛ آملا أن يتمكن في نهاية المطاف من العمل مع شركات دولية راسخة وجادة، بعد أن وجد نفسه عام 2018 عالقا في سفينة "أمان" التي استولت عليها مصر بعد أن انتهت صلاحية تراخيص مالك السفينة، لتصبح قانونيا قاربا شبحا بقيادة طاقم بلا مرجع.
 
وتساءلت الصحيفة: هل يمكنك أن تتخيل صاحب عمل مفلس يحبس موظفيه في المستودع ويغلق عليهم الباب ثم يلقي المفاتيح ويختفي؟ وترد بأن ما لا يمكن تصوره على البر، يمكن أن يحدث في البحر، لأن "المالك في حالة حدوث مشكلة يمكنه الاختفاء"، كما يقول الأستاذ الجامعي ومنسق مرصد حقوق البحارة باتريك شوميت.
 
ويوضح شوميت أن "التخلي عن السفن والأطقم أمر شائع في البلدان التي لم تصدق على الاتفاقية البحرية الدولية"، خاصة بالنسبة لتلك السفن المسجلة في دول غير التي يتبع لها المالك الفعلي للسفينة، وبالتالي يسود الإفلات من العقاب في أعالي البحار لأنه من الممكن إنشاء شركة من دون رأس مال، ومقرها في عنوان غير موجود، وفي حالة حدوث مشكلة يمكن للمالك أن يختفي، وهذا ما فعله مالك السفينة "أمان" الذي اختفى ببساطة، تاركا محمد عائشة محرومًا من أي سبيل للحصول على العدالة.
 
ولتجنب تكاليف التفكيك، طرحت مصر أمان للمزاد العلني في أغسطس/آب 2018 في محكمة السويس التجارية، ولكن الرجال الذين نفد صبرهم طالبوا بإعادتهم إلى بلدانهم، وغادر القبطان السفينة أولا وتبعه الطاقم واحدا تلو الآخر، يقول محمد عائشة "بإمكاني تفهمهم، لكن الألم ازداد مع إفراغ القارب وبدا واضحا أننا لن نستعيد أموالنا أبدا"، لذلك طالب بالعودة إلى سوريا، ولكن ضابطا صعد إلى متن السفينة وأجبره على توقيع الأوراق ليصبح في غياب القبطان وصيا قانونيا على أمان.
 
وبعد أن هرب الجميع، بقي محمد عائشة وحيدا يصارع الموج سباحة، ويعتمد على كرم سكان قرية مصرية قريبة في طعامه، قبل أن تنقذه عائلة من الغرق صيف 2020 وتحمله إلى المستشفى ليشخص الأطباء حالته بأنه يعاني من مشاكل خطيرة في الدورة الدموية وفقر دم متقدم وأمراض في الكلى.
 
▪︎ ضامن جديد
 
ولأن مصر لا ترغب في ترك القارب فارغا على شواطئها، كان على أحد أفراد الطاقم أن يلعب دور الضامن حتى يشتري أحدهم الحطام ويتولى ديونهم، إلا أن محمد عائشة توجه إلى النقابات الدولية وإلى اتحاد النقل الدولي الذي جاء لمساعدة البحارة المنكوبين، وتعاقد مع محام لبدء الإجراءات والمطالبة بإعادة محمد عائشة إلى الوطن.
 
ويقول أمين سر اتحاد الضباط البحريين المصريين السيد الشاذلي إن الإجراءات القانونية يمكن أن تستغرق شهورا أو حتى سنوات، مضيفا "في حالة أمان تم عرض سفينة الشحن في المزاد أكثر من 10 مرات من دون أن يرغب أحد في دفع الحد الأدنى للمبلغ وهو 1200 دولار"، لتبقى القضية في يد القضاء المصري، كأحد ملفات التخلي العديدة في السويس، حيث يوجد قاربان آخران يواجهان المصير نفسه؛ بحارة مفقودون وملاك مفقودون.
 
بعد 3 أسابيع أصدرت محكمة العدل المصرية حكما بإعادة محمد عائشة إلى الوطن، ليعود بعد 4 سنوات من مغادرته إلى طرطوس مسقط رأسه، بعد أن لبى الشرط الوحيد وهو استبداله على متن السفينة "أمان" بوكيل متطوع من اتحاد النقل الدولي اسمه ناصر حسين ليكون الحارس الجديد لسفينة الأشباح.
 
▪︎ إشكالية عالمية
 
وأشارت الصحيفة إلى أن حالة محمد عائشة ليست إلا واحدة من القضايا الكثيرة في هذا العالم، حيث يتجول في محيطات العالم عدد من البحارة المحاصرين في سفنهم المهجورة، في انتظار أن يأتي شخص ما لإنقاذهم، وهي حالة متكررة في فرنسا، خاصة في تسعينيات القرن الماضي.
 
أما اليوم، فقد تم نشر جمعيات على الأرض لتقديم المساعدة للبحارة الذين يجدون أنفسهم وحدهم في البحر، حيث يضم الاتحاد الوطني الفرنسي لجمعيات استقبال البحارة (Fnaam) ما يقرب من 21 منظمة لتسهيل استقبال البحارة، كما أن الحكومة أنشأت منحة قدرها 300 ألف يورو "لتقديم دفعة مقدمة على الأجور لصالح البحارة الذين تم التخلي عنهم في الموانئ الفرنسية في انتظار إنشاء نظام مالي دولي".
 
وفي عام 2006 -كما توضح الصحيفة- أنشأت اتفاقية العمل البحري العديد من الحقوق للبحارة من أجل الحصول على ظروف عمل أفضل، وتشمل هذه الاتفاقية -التي دخلت حيز التنفيذ عام 2013- حق العودة إلى الوطن عندما يتم التخلي عن الطاقم، وصادقت عليها ما يقرب من 100 دولة.
 
المصدر : الصحافة الفرنسية + الجزيرة

مواضيع ذات صلة