علاقة التخلف مع الاستبداد والقهر (الجزء الأول) محمود الجسري.
علاقة التخلف مع الاستبداد والقهر (الجزء الأول)
محمود الجسري.
يحلل الدكتور مصطفى حجازي في كتابه الرائع "التخلف الاجتماعي - مدخل إلى سيكولوجية الإنسان المقهور" الملامح النفسية للوجود المتخلف في بلدان العالم الثالث وأسباب هذا التخلف ونتائجه المدمرة على الإنسان والمجتمع والدولة.
في ما يلي بعض ما جاء في هذا الكتاب البديع كخلاصة يتداخلها بعض وجهات النظر الخاصة حسب قراءتي للموضوع و فهمي له:
علماء الاقتصاد هم من أوائل من بدأ بدراسة التخلف. كان الاعتقاد السائد أنه من السهل تحريك اقتصاد الدول المتخلفة للحاق بالعالم الصناعي، وبالطبع كان هذا الافتراض خاطئا بسبب تجاوز المنطق الاقتصادي لعوامل كثيرة، منها الوضعية والبنية الاجتماعية، والأهم من ذلك تجاوزه للإنسان الذي يعيش في العالم المتخلف. بعد ذلك حاول علماء الاجتماع سبر أغوار التخلف وأتى غيرهم من العلماء من شتى المجالات، حتى انتبه علماء النفس لهذه الآفة وتم التركيز على الإنسان وعقله وتصرفاته لدراسة التخلف و أسبابه.
كانت طرق دراسة التخلف بسيطة في البداية، فقد كانت تركز على الفقر وسوء التغذية والحالة الصحية والتعليم ودخل الفرد وغيرها. و من النتائج المهمة معرفة أن التخلف هو ثمرة الاستغلال والاستعباد، ومن أكبر مشاكل المجتمع المتخلف قلة التصنيع والتطوير حيث يسيطر التجار على جزء كبير من رأس المال وموارد البلاد من خلال دورة تبدأ بشراء بضائع المزارعين وأصحاب الحرف اليدوية بمبالغ زهيدة ثم تصديرها أو إعادة بيعها مع سلع مستوردة بسعر مرتفع، واستثمار الأرباح في البناء وتوسيع المدن، وليس التصنيع والبحث والتطوير، لينتقل الريف للمدينة، وبذلك يزداد الفقر وتستمر دورة الخلل في الدوران. المؤشر المهم جدا هنا معرفة أن التخلفَ من الناحية الاقتصادية هو جزءٌ من آلة النظام الرأسمالي العالمي.
أيضا ربطت الدراسات الاجتماعية الأولية أسباب التخلف بالانفجار السكاني وقلة الموارد والأمراض والبطالة، ثم وصلت لسبب رئيسي وهو وجود قلة عندها امتيازات عالية مقابل غالبية بائسة، وهذا ما يخلق تبعية وعبودية ترسخها ديكتاتوريات وإدارات فاسدة متوَّجةً بقمع للشرطة أو الجيش.
و في وقت لاحق أتى تعريف التخلف بالمنظور النفسي، فهوهنا يتجاوز التقنية والإنتاج إلى هدر لقيمة الإنسان، وهو عالم فقدان الكرامة الإنسانية. هو عالم يتحول فيه الإنسان إلى شيء أو أداة أو وسيلة او قيمة رخيصة تعيش في عالم القهر التسلطي.
عالم القهر التسلطي يتمثل في سيادة القلة التي تمارس العنف المادي والمعنوي على الإنسان في المجتمع المتخلف، وتؤثر على كل ما له علاقة بأمنه وصحته وعمله ومجتمعه ومأواه وغيرها، وتوصله لمراحل يتضح فيها عجزه عن مواجهة القهر والتسلط والطبيعة، فهو لا يدري أي نوع من الضحايا سيكون ومتى وكيف.
يمر واقع الإنسان المتخلف بعدة مراحل، أولها الرضوخ والإذعان، ويليها الاضطهاد، ثم التمرد. وسنسرد في الجزء القادم كيف يتحول الإنسان المقهور إلى عدو لنفسه أولا، ثم كيف يضطهد ويحقد على أبناء مجتمعه، ثم كيف يصل لمرحلة الثورة والتمرد عند ترسخ اليأس من أي حوار سلمي، كما سنرى ما هي ملامح العقلية المتخلفة وكيف أن الكثير من الأمثلة تنطبق على كثير من الدول العربية والدول النامية المتخلفة بسبب الاستبداد و القهر.
معرفة الداء وتشخيص المرض وتوصيفه هي من أهم أسباب علاجه، ومعرفة تفاصيل التخلف والعقلية المتخلفة ستفيد في العلاج إن توفرت الفرصة.
و إلى لقاء قادم في الجزء الثاني.