بوابة إلى عوالم سلسلة مقالات إجتماعية هادفة بقلم الكاتبة هدى البني

بوابة إلى عوالم، هي مجموعة يوميات وخواطر جابت في ذهن امرأة سورية هاجرت مع أسرتها للعيش في كندا وعاشت التباين الثقافي والحضاري بين المجتمعين وكذلك صدمة الواقع مقابل الأحلام الوردية التي يعيشها كل طلاب الهجرة إلى القارة الأمريكية، ثم دونتها في كراسة وسكبتها في قالب أدبي يتسم بالصدق والشفافية والموضوعية. الجزء الخامس البـلــــد بأهـلــــــــــــه "لا يوجد حدود للمستقبل العظيم الذي ينتظر كندا بشعبها المتعافي والطموح والمثقف وسخي القلب" السير ونستون تشرشل* أسترق النظرات عبر زجاج النافذة. لم تنقطع العاصفة الثلجية منذ ليلة أمس. تبدو الدنيا بأكملها خارج هذه النوافذ كرقعة بيضاء، ومشهد السيارات في الطريق السريع يذكرني بالناس العديدة التي نتقاطع معها في فترة أو حدث من الحياة ثم يذهب كل في طريقه. نحن هنا غارقون أمام شاشاتنا كل منا منهمك بمهامه. تبث على الهواء مباشرة أغنية " هالولويا" التي تهلل لأفكاري لتخرج مجدداً إلى الفضاء النقي. ليس هدفي فيما سأقول إلا شهادة حق عن الوطن الدافئ الذي يحتضن وافديه بهدوء وسلام. منذ اكتشافها أطلق على كندا لقب وجهة القاصدين. سكانها الأصليون هم الهنود الحمر. أتاها في عهد النهضة الفرنسيون والإنكليز تحت اسم حملات تبشيرية وتنصيرية للهنود الحمر " المتوحشين" فأبادوا أكثرهم وتملكوا الأرض، ثم تنازعوا عليها فيما بينهم. وكانت الدولتان ترسل الجيوش والمنفيين والمحكومين وأولاد الملاجئ إليها ليعمروها ويتكاثروا فيها. ثم شاء الله أن يأتي من أصلاب هؤلاء جيلاً متواضعاً وواعياً ومجتهداً قرر أن يصنع دولة مجيدة ويخدم البلد وينهض بها. ثم ما لبث أن قصدها اللاجئون والهاربون والحالمون من أنحاء العالم ليبدؤوا فيها من جديد وخاصة منذ فترة الحرب العالمية الأولى. بالإرادة المشتركة ويداً بيد صنع كل هؤلاء مجد كندا وحولوها إلى واحدة من خيرة بلدان ومجتمعات العالم. ثروتها الأساسية -برأيي- هي مجتمعها المتحضر والواعي والمتعدد الثقافات ثم يأتي بعدها الماء والموارد الطبيعية والتكنولوجيا. تاريخ كندا قصير نسبياً بين أمم الأرض، لكن أهلها يعتزون به ويحافظون على تراثهم. قيمهم إنسانية سامية ينقلونها بأمانة عبر الأجيال، يقدسون العمل ويحضرون له جيداً. ويسيّر القانون الكندي مجتمعه المتعدد الثقافات بسياسة واحدة يقبلها الجميع ألا وهي العدل. بالحديث عن أهل كيبك، هم أكثر ونساً وحرارة من غيرهم من سكان المقاطعات الأخرى وكذلك أكثر انفتاحاً على ثقافات الشعوب. يحدث التاريخ بأنهم كانوا أقلية فقيرة من أصول فرنسية ومضطهدة في كندا الانكليزية، بعد أن تخلت عنهم حكومة فرنسا في منتصف القرن الثامن عشر. بعد أن مر دهر على نضالهم لاستمرار وجودهم كقلة فرنسية في القارة الأمريكية صنعوا قراراً حاسماً في أواخر الخمسينيات من القرن الماضي وخاضوا "الثورة الهادئة". نعم هي ثورة هادئة، جزء لا يتجزأ من تاريخ كيبك أنجزت خلالها أعظم الإنجازات بدون هدر نقطة دم. يحتاج شرح الثورة الهادئة وإنجازاتها ونتائجها على كيبك كتاباً كاملاً. لكني هنا سأوجزها بأنها نهضة علمية وثقافية واجتماعية، تطور الكيبيكيون بسببها من أقلية جاهلة مستضعفة إلى نخبة كندية تبنت الحداثة والانفتاح على العالم وفصل الدين عن الدولة ودعم الفرنكوفونية. تبنت هذه الحركة نشيداً وطنياً خاصاً بكيبك ينشد كورسها: يا شباب الوطن، قد أتى دوركم، لتتحدثوا عن الحب! يحدث التاريخ بأن الكيبيكيين منذ عهدهم أكثر انفتاحاً على العالم من غيرهم من الشعوب التي قطنت كندا، فقد تخالطوا مع الهنود الحمر والمهاجرين ولم يعتزلوهم فأخذوا منهم الكثير وأعطوهم. وبسبب انفتاحهم ورغبتهم الصادقة في التطور أصبحوا الآن شعباً راقياً وواعياً تربى وتعلم على التواضع واحترام الآخر والبشاشة وسياسة الحوار، وحرية التعبير والتصويت ثم الالتزام برأي الأكثرية. في كل كندا يتشرب المواطن الرقي منذ الطفولة. ينشأ الأطفال منذ الحضانة في جو منظم ومنضبط. فيتعلمون الوقوف في الدور وعدم إثارة الشغب وعدم أذية الآخرين. ثم أثناء التعليم الابتدائي يتدربون على قبول الاختلاف والتعايش مع الآخرين واحترام جميع الآراء والأفكار والأديان. في الإعدادية يتعلمون معنى تقييم الذات وتقديرها ويدرسون مادة الأخلاق الاجتماعية: كيفية التعبير عن أفكارهم ومشاعرهم وشرح وجهات نظرهم، وفن التصويت وصنع القرار. يتوجه اليافعون دراسياً حسب ميولهم الفطرية، ثم في الثانوية يتحضر الواحد فيهم نفسياً لفكرة الاستقلال وأنه سيصبح قريباً في عداد المواطنين المسؤولين كشخص بالغ وعاقل. شعب كيبك خاصة والكنديون عامة يتشربون ثقافة الفرح منذ الطفولة. ينعكس ذلك في كرنفالاتهم واحتفالاتهم واهتمامهم الشديد بقطاع السياحة وولعهم بالفن والموسيقى وكل ما فيه تسليه ومرح للصغير والكبير. أما مونتريال، الصدر الحنون الذي يضم كل الباحثين عن وطن بحرارة لا مثيل لها، أكثر ما اشتهر أهلها به هو التسامح الشديد والطيبة وحسن المعشر. وكغيرهم من الكنديين، هم أميل إلى التواضع واحترام أفكار الآخرين، فأغلبهم تربوا على أن يتصوروا الأرض بما تحتويه من أمم وحضارات وثقافات بمثابة لوحة فسيفساء شاسعة، كل فيها له مكانه ودوره، ولا تكتمل اللوحة إلا بكل تفاصيلها. هم أيضاَ سلميون وودودون ويقدرون بشدة مشاعر الآخرين. من طرفهم علموني الكثير... اللغة والنظام وقيماً عليا وأدخلوا إلى قلبي الكثير من الفرح. من طرفي، قررت منذ أمد بعيد أن أنظر دائماً إلى الجانب المشرق، وأن أبحث حتى في حلكة سواد الليل على النجوم المنيرة. ولذلك أنا في مذكراتي هذه لن أحاول الخوض في مشاكل المجتمع الكندي العديدة كسائره من المجتمعات، بل أن أصور ما استحسنته وأنقله كرسالة إلى شعبي العربي الحبيب، أصلي وجذري عسى أن يستفيد من تجارب غيره الإيجابية. يتبع في العدد القادم ... هدى البني

مواضيع ذات صلة