الموت الخلوي المبرمج.....حينما تتساقط أوراق الخريف د.محمد فتحي عبد العال صيدلي وماجستير في الكيمياء الحيوية
الموت الخلوي المبرمج.....حينما تتساقط أوراق الخريف
د.محمد فتحي عبد العال
صيدلي وماجستير في الكيمياء الحيوية
هل تعلم أن لخلاياك وجها أخر خفي ؟!! فهي تفكر وتتخذ قرارها وتؤثر وتتأثر بمحيطها، بل يصل الأمر بها الي التضحية والفداء من أجل الحفاظ علي صحتك ففي حقيقة مدهشة توصل الباحثون أن الخلية الحية تحمل في طياتها بالأضافة الي النظام الذي يضمن حياتها بكل ما يستلزمه ذلك من أنشطة بيولوجية ففي المقابل وعلي غرار طريقة الهاراكيري اليابانية في الانتحار كي ينقذوا أرواح أفراد قواتهم فالخلية تحمل أيضا آلية ذاتية للفناء والتضحية بالذات من أجل صحة الأنسان . هذة الالية تخضع لجينات خاصة مسئولة عن انتاج بروتينات معينة تخضع لنظام محكم ومن هنا كانت التسمية لهذة الالية بالموت المبرمج للخلايا (بالإنجليزية( programmed cell death أو Apoptosis وقد جاء أختيار الكلمة اللاتينية Apoptosis والتي تعني سقوط الأوراق من الأشجار لتمييز الموت الخلوي المبرمج والذي يقع تحت ظروف فسيولوجيه عدة أو ظروف مرضية عن أنواع الموت الخلوي الأخرى. ولأن عملية الموت المنظمة للخلايا والتي تسير وفق برنامج شديد التعقيد متشابهة آلياتة بين الخلايا الحيوانية عامة فما أروع دقة القران حينما يصور هذا الموت ونظامه المحكم في قوله تعالي: (نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ) (الواقعة: 60).
موت المادة الحية هو جزء هام وضروري لدورة حياة الكائنات الحية ولهذا كانت حكمة الله عز وجل في تقديم الموت علي الحياة وجعل الموت الأصل في قوله تعالي: (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ) (الملك: 2) فالمـوت المبرمـج للخلايا عملية منّظَمة ومنّظِمة في الوقت ذاته ولولاها ماكان التكوين الجنيني، فمنطقة الأصابع عند نشأة الجنين تكون كتلة واحدة لا يظهر فيها أية أصابع مما يستلزم معه أن تموت الخلايا في المواقع الفاصلة بين الأصابع حتي تتمايز الي أصابع محددة ويعتبر القران معجزا في الأشارة الي مراحل تطور الجنين من مظهر غير متميز إلى مظهر إنساني متميز في قوله تعالي ﴿جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً﴾)سورة المؤمنون الآية: 13-14(.
المدهش أن الموت المبرمج للخلية لا يتوقف دوره عند ذلك بل هو لاعب أساسي في نظام مناعة الجسم، فلولاه ما استطاع الجسم التصدي للأمراض حيث يتخلص من الخلايا المعطلة والتي لو استمرت في الحياة لهددت حياة الإنسان كما يقوم بتنشيط الخلايا المسؤولة عن مقاومة الميكروبات الضارة ، بل ومن اللافت للنظر أن النبات أيضاً يعتمد الطريقة ذاتها لمقاومة العدوى بالميكروبات، والتخلص من الخلايا التالفة، وكذلك في حالة تساقط أوراق الخريف.
هناك ملامح شكلية خاصة تميز الموت المبرمج للخلايا عن الموت المرضي للخلايا والمعروف بالنخر (cell necrosis) وهو الموت الناتج عن ضرر أو أذى حاد مثال ذلك عندما يتوقف الدم عنها ومن ثم حرمانها من الأكسجين حيث تنتفخ الخلية مما يؤدي إلى انفجـارها وتناثر محتوياتها الي الخلايا المجاورة ملحقة بها الضرر ومحدثة التهاب .بينما الموت المبرمج للخلايا يميزه عدد من التغيرات الشكلية المعروفة والتي تشمل : انكماش حجم النواة، وتكسر جزيئات الحمض النووي الدنا الي قطع صغيرة ، وظهورفقاعات في الغشاء البلازمي ثم انشطار الخلية ذاتها الي عدد من القطع التي تسمي أجسام الموت المبرمج للخلايا وتكون محاطة تماما بالغشاء النووي مما يحمي الخلايا المجاورة من المواد الضارة التي تحتويها هذه الخلية الميتة ويكتمل هذا السيناريو المتقن بأبتلاع الخلايا البالعة الكبيرة (Macrophages) لهذه الخلية الميتة.
يتخذ موت الخلايا المبرمج مساران رئيسيان هما المسار الداخلي والمسار الخارجي. يتمركز المسار الداخلي تبدأ الإشارات القاتلة من داخل الخلية وتعتبر مجموعة بروتينات Bcl-2 في هذا المسار بمثابة القاضي الذي يصدر حكمه علي الخلية بالموت أو يسمح لها أن تبقي علي قيد الحياة فما أن يصدر الحكم حتي يتم التنفيذ بواسطة أنزيمات الموت أو caspases وهي أنزيمات محللة للبروتين .مسرح هذه المحاكمة هو الميتوكوندريا مصنع الحياة والموت في آن واحد فهي معقل التنفس الخلوي وأنتاج الطاقة وفي الوقت ذاته هي نقطة البداية لموت الخلايا المبرمج . وفي المقابل، فإن المسار الخارجي لموت الخلايا المبرمج وفيه يتم حث الخلية على الانتحار بواسطة تنشيط مستقبلات الموت مثل مستقبلات Fas على غشاء الخلية المستهدفة، حيث ترتبط مع عامل تنخر الورمى (TNF) من أجل تحفيز موت الخلايا المبرمج.
هناك توازن دقيق ومستمر بين العوامل المنظمة لموت الخلايا المبرمج والعوامل المضادة للموت الخلوي المبرمج.إختلال هذه الإتزان يؤدِّي إلى تنشيط الأمراض. ومن الامراض التي ترتبط بزيادة الموت الخلوي المبرمج :الأيدز ومرض الزهايمر ومرض باركنسون و احتشاء عضلة القلب والسكتة الدماغية بينما الامراض التي ترتبط بأنخفاض الموت الخلوي المبرمج هي : أمراض المناعة الذاتية ومرض السكر و العدوى الفيروسية وسرطانات الدم حيث أن السمة البارزة في المرحلة المتأخرة للإنتشار الورمي الخبيث هي اكتساب الخلايا السرطانية صفة مقاومة الموت الخلوي المبرمج .
هذا الوجه الأخر لموت خلايانا والذي امطنا اللثام عنه هو معين لا ينضب بالنسبة للباحثين للأستفادة من خلاله في مقاومة الامراض وكبح جماحها.