أومن ...
بقلم الكاتبة هدى البني
برأيي، تجتمع البشرية منذ الأزل في حاجتها للاعتراف بضعفها أمام قوة قادرة مطلقة. وكل إنسان في أعماقه يلتمس القوة والعون من الخالق القادر. لكن الناس اختلفوا في ماهية الإله بسبب محدودية عقولهم. وفي تفسير وتحليل العلاقة بين الرب والعبد، وكذلك في محاولاتهم لتفسير ماهية الروح - من أين أتت وأين تذهب بعد موت الجسد. وبدل أن يركز البشر على نقطة اللقاء بينهم والهدف الذي من أجله خلقوا على هذه الأرض تحاربوا بسبب اختلافاتهم وعنادهم. على نطاق فردي، كل إنسان يستطيع دعاء الله في سره بغض النظر عن دينه، وله أن يختار طريقه في رحلة البحث عن الحقيقة، وله الحق في أن يتبنى قناعاته الدينية، بناء على اكتشافاته الشخصية، فـ " لا إكراه في الدين". شخصياً، أؤمن بأن الدين ليس سبب للمحبة أو الكره. فأنا لا أكره ولا أحقد على أحد لا يؤمن بديني لكنني أمتعض نفوراً وغضباً ممن يهاجم مقدساتي بسخرية أو قلة أدب.
كما أنني أرد على أي طالب معرفة وباحث عن الحقيقة باحترام وبأفضل ما أعلم ولا يزعجني أي تعبير صادر عن رغبة صادقة في التعلم. وصدقاً أقول بأنني في مراحل ضعف فيها إيماني وتضاءلت فيها بصيرتي، أرسل المولى من عباده النصارى وغيرهم من أرجع لي الثقة بحكمة الرب وقضائه، حين لم أعد أرغب بسماع المشايخ. وكم من رسالة خفية دعتني إلى الله وصلت إليّ من الحيوانات والحشرات والنباتات. وبعد تأمل طويل أيقنت أن الله عز وجل يتكفل كل بني آدم كسائر مخلوقاته ويعطي كل من عمل وسعى، بغض النظر عن دينه وعن مذهبه. بالحديث عن العناية الإلهية، ترد إلى بالي حادثة حصلت معي في يوم من أيام سبتمبر (أيلول) في أول عام قدمت فيه إلى مونتريال، في فترة صعبة من حياتي.
أصبت بتلك الفترة بأزمة مالية شديدة وبإنهاك جسدي شديد، وضياع روحي ومعنوي جعلني أقلب بصري في السماء بعد أن عجزت عن الرؤية في الأرض. على مقعد للمشاة في منطقة الميناء القديم جلست بقرب سيدة في الستينات أراقب المارة والطيور البيضاء المتجمعة على فتات الطعام. ثم غمرت وجهي بكلتا يدي وصدر عني تأوه خافت "يا الله، هل تسمعني؟ " فاجأتني السيدة بأنها سمعت كلامي وفهمته، وبعد دردشة قصيرة علمت بأنها من مصر، وأنها في كندا منذ أربعين عاماً. دعتني بعد حديث قصير لشرب الشاي معها في شقتها في مدينة لونغوي لأنها تهتم كثيراً بالصلاة على وقتها. شجعني لطف السيدة هناء على قبول دعوتها، فليس من عادتي الخوف من الغرباء. وهكذا ركبنا في سيارتها الجديدة الفاخرة، وقطعنا جسر شامبلان الضخم والعالي فوق نهر سانت لورانت، والذي يربط بين مونتريال ولونغوي. في غضون دقائق سارت فيها السيارة بمحاذاة النهر، وصلنا إلى عمارة جديدة وشاهقة تسكن فيها هناء في الطابق السابع. بمجرد دخولي إلى شقتها راودني إحساس بالراحة والسكون.
جاب نظري فيها. حيطانها مصبوغة باللون الفستقي الفاتح والسكري، أثاثها عصري أنيق وترتيبها يدل على ذوق بسيط. غرفة الجلوس واسعة أثاثها بني اللون وضعت في زواياها فازات الزهور الحمراء والصفراء، ثم في ركن الطعام كراسي الطاولة نصفها خمري ونصفها الآخر بيج داكن والستائر كذلك من نفس مزيج الألوان. نوافذها عريضة ومن خلف الستائر المفتوحة مشهد خلاب لنهر سانت لورانت وتفرعاته، ومن ورائه تنتصب أبراج قلب مونتريال الشاهقة، يطل جبل مونتريال الأخضر من ورائها ومن الفراغات التي بينها ومن فوقه السماء الزرقاء الصافية. تحلق أمام نافذتها النوارس البيضاء والبط البري وتظهر من بعيد قبة المتحف الحيوي المستديرة في قلب جزيرة سينت هيلن. تركتني هناء عشر دقائق أتأمل سحر المكان وتفاصيله، ثم دعتني لاكتشاف المزيد في هذه الشقة الجميلة. غرفة نومها بسيطة جداً مصبوغة باللون البنفسجي الفاتح، ألصقت عليه صور بعض زهور التوليب البيضاء والأرجوانية الكبيرة. فيها سرير وشفونيرة بسيطة فهي لا تحب ملء المكان بالخردوات والكراكيب كما حدثتني. ثم غرفة النوم الأخرى لابنها الوحيد والغالي الطبيب الجراح.
أدهشني أنه وضع ورق جدران ثلاثي الأبعاد في غرفته لمشهد مجرة في الكون، حتى أنني نسيت لوهلة أنني في شقة على الأرض، ثم مكتبة صغيرة تخرج منها طاولة كل ما عليها هو جهاز كومبيوتر محمول. ثم أكرمتني هناء في ركن الطعام بالشاي الرمادي المطعم بالأعشاب وكعكة الجبن اللذيذة، أثناء تجاذب أطراف الحديث. كانت تمجد الله كل بضع دقائق، وتوزع لي ابتسامات عريضة مدعومة بعبارة: الله كريم والحياة حلوة. ابتسمت بسخرية وأجبتها في نفسي: "طبعاً لكنت قلت نفس الكلام لو كنت في مكانك. أتفهم كل هذا الامتنان فأنت في الجنة ذاتها! ". تفرست هناء في وجهي. اخترقت نظرتها عيني لتقرأ ما يدور في رأسي، فردت عليّ بابتسامة ساخرة هي الأخرى. كان الوقت هو المغيب، والشمس تتحضر للاختباء وراء الجبل، لكنها أرسلت بعض أشعتها لتنير وجه هناء وتبرز الخطوط التي رسمها الزمن، ثم لتصبغ المكان بأسره بلونها البرتقالي والوردي. حدثتني هناء عن ابنها مطولاً، كم هو بار ومتميز وناجح ولطيف، وأنه يتحضر للزواج من إحدى زميلاته. وكنت أراقب عينيها كيف تتوهج كلما حكت عن "حبيب القلب" وفخرها بأنها أدت "رسالتها في الحياة" بتربيته. ثم هبط الليل، وأنار الهلال وأضواء المدينة الوهاجة شقة هناء، وهي أيضاً أضاءت اللمبدير الوحيد في الصالون، فهي تحب الإنارة الهادئة. أوحى لي المكان بكل تفاصيله بأنني لم أحضر إليه بمحض الصدفة، وإنما ليسمعني قدري عن قصة كفاح غربية.
يتبع في العدد القادم ... هدى البني