آخر الدنيا.. بقلم القاص أ. محمد صباح الحواصلي / أيام كندية

المكان..
    يا لذلك الشيء المبهم!
    كم حيركَ الانتقال من مكان إلى آخر. كم هي مليئة بالأمكنة تلك الدنيا. 
    ركبتَ السيارة مع أبيك وآخرين، صغاراً وكباراً. ربما كان هناك أكثر من سيارة، انطلقت جميعها في طرقات تضيق وتتسع، تزدحم وتقفر. وكان الزمن في أعماقك بحيرة ساكنة. أنت لا تدري عن الوقت شيئاً، بل لم يكن الوقت مشكلة تشغلك. يكفي أن الفرح كان يختلط بجداول الدهشة في نفسك، والشمس المشرقة لا يعنيها من أمر الزمن شيئاً، بل همها كله أن تبعث الدفء والغبطة في أعطافك. ألم تعاهدك الشمس أنها لن تبرح السماء كي يبقى النهار ويدوم الفرح.
    السيارة منطلقة في أماكن جديدة فيها جبال وتلال خضراء ونهر وأشجار. كنت تحسب أن السيارة قد بلغت آخر الدنيا.. هذا صحيح. ألم يقل أبوك أمس: "ناموا باكرا لنذهب غداً.. إلى السيران.. سنذهب إلى مكان بعيد وجميل."
    كان المكان حقا بعيداً، وكان آية في الجمال. لقد نسيت كرتك وأصدقاءك وسرحتَ مثل خروف تائه في الأرض الخضراء. لحقت الفراشات وتأملت الهوام وحاولت أن تتسلق شجرة لترى أعشاش العصافير.
 
    هنا، في آخر الدنيا، لقيت ذاك الفرح الذي يبقى ويتجدد مع الأيام.
    هنا، أيضاً، تنشقت رائحة زهرة واكتشفت سراً مبهماً؛ أن أريجها كان في أعماقك وإلا كيف صادف أن لقيته، هناك، وأنت تشمه.
    عندما تصرّم النهار كنتَ تنظر من خلال نافذة السيارة إلى الشمس التي كانت تغيب وراء الأفق رويدا رويدا وكأنك غير مصدق بأنها، نفسها التي عاهدتك ألا تبرح قبة السماء، عازمة على أن تأخذ معها ذاك النهار الجميل المشمس وذاك المكان الذي كان في آخر الدنيا.
▪︎"تكوينات (٤) ".. مجموعة قصصية كتبها القاص الأستاذ محمد صباح الحواصلي/ أيام كندية، ونُشرت في ٢٥ أكتوبر ٢٠٢٠
 
 
 

مواضيع ذات صلة