دعوة للتأمل بقلم د.محمد فتحي عبد العال

دعوة للتأمل بقلم

د.محمد فتحي عبد العال

هل تأملت يوما في حقيقة وجودك وهذا التنظيم الكوني المتناغم من حولك ؟..لقد اختص الله الأنسان بملكة العقل لكن علي ما يبدو فليس كل البشر علي نفس الدرجة من الإهتمام بادارة هذه الملكة المهمة في إستجلاء الحقائق عبر التأمل والتفكر .. يعتبر التأمل من الرياضات الروحية شديدة السمو والشيوع في مجتمعنا المعاصر فهي حصاد لتجارب الإديان والحضارات عبر العصور مما أثري حياة معتنقيها لتكون أكثر توازنا وصحة وسعادة عبر تخفيف مظاهر القلق وعوامل التوتر والضغوط اليومية من حولهم وخلق حياة جديدة عنوانها الهدوء والطمأنينة ...

التأمل عبر الحضارات الأنسانية :

كانت الحضارات الصينية والهندية حاضرة بقوة عبر التاريخ في هذا المضمار الساعي نحو تحقيق التناغم داخل الانسان والأنسجام في أطار علاقاته مع المحيط الخارجي والطبيعة وفي رحلة الأنسان القديم نحو طمأنة روحه القلقة كان للهندوس موعد مع ممارسة اليوغا بكهوف الهند القديمة وعن أصل اليوجا فتدعي بعض الأساطير أن الأله (شيفا ) كان يتحدث مع زوجته حول أسرار اليوجا المدهشة حينما أسترقت أحدي السمكات في النهر القريب منهما السمع فتحولت من خلال اليوجا الي انسان ينقل بدوره الفلسفة اليوجية الي أنحاء الهند فتأخذ الذات الفردية بالإتحاد مع الذات الكونية وذلك عبر مجموعة من التمارين الجسدية والروحية التي يتحرر الأنسان فيها من عباءة التعددية وعالم الظواهر الي الوحدة المطلقة حيث الأتحاد بين الخالق والمخلوق..

التأمل والأديان : كما اقترن التأمل بالدين، ففي الديانة البوذية والتي عرف عن مؤسسها (سدهرتا كوتاما)أو البوذا (بمعني العارف المستنير) حبه للتقشف والتأمل في سر الحياة للخلاص من الشقاء علي الرغم من خلفيته المترفة فقد ولد لإبوين حاكمين فيقول بوذا "إن الشخص الذي يتأمل، بروح تنحو صوب التخلي، يصل إلى الهدف بسهولة".وتسمي حالة الإنطفاء الكامل أو الخلو من المعاناة التي يصلها الأنسان بعد مضي سنوات من التأمل العميق يصبح بعدها منفصلا بجسده وروحه عن الظواهر الخارجية ب (النيرفانا)..

كما نجد في اليهودية ذكرا في التوراة لممارسة إسحق للتأمل وفي الديانة المسيحية نجد الكتاب المقدس يستخدم كلميتين عبريتين (هجاه وسيت) في إشارة للتأمل في أعمال الله وشريعته...وكان السيد المسيح مثلا أعلي في التأمل فقد كان يعتزل في البراري والأماكن الهادئة مصليا ومتأملا .

أما في الأسلام فعبادة التفكر والتأمل من أجل وأفضل العبادات التي تربط الخلق بالخالق، و تكسب الإنسان اليقين وطمأنينة النفس وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أول من بدأ بالتأمل عندما كان يذهب إلى غار حراء للتأمل والتدبر في مخلوقات الله فهي الوسيلة لمعرفة الله عبر خلقه و لم تكن الرسالة قد نزلت عليه بعد قال تعالي : (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ) (فصلت:53) كما كان التأمل والتدبر مسلكا للصالحين فقد سئلت أم الدرداء عن أفضل عبادة أبي الدرداء قالت: التفكر والاعتبار، وعن طاوس قال: قال الحواريون لعيسى ابن مريم: يا روح الله، هل على الأرض اليوم مثلك؟ فقال: نعم من كان منطقه ذكرًا وصمته فكرًا ونظره عبرة فإنه مثلي..

وقال عمر بن عبد العزيز: الفكرة في نعم الله عز وجل من أفضل العبادة. التأمل والعلم الحديث: لكن ما هو رأي العلم تجاه هذه الطقوس التأملية ؟ فهل يساعد التّأمل على صحة عقولنا وأجسادنا ؟ عادة ما يؤدي التوتر والقلق الي زيادة مستويات العامل النووي الكابا ( kappa B ) مما ينشط سلسلة من الجزيئات تعرف بالسيتوكينات Cytokines) ) والتي تؤدي الي زيادة الألتهابات والسرطانات وهنا يعمل التأمل بحسب بعض الدراسات علي الوصول بالكابا الي مستويات منخفضة مما يساعد علي الوقاية من هذه الأمراض . وفي دراسة مثيرة حول دور التأمل في تنظيم النشاط الخلوي لدي الناجين من السرطان فالتيلوميرات (Telomers) والتي تحمي نهايات الكروموسات والمفترض أن تتناقص أطوالها مع الأنقسامات الخلوية قد ﺑﻘﻴﺖ ﺑﻨﻔﺲ اﻟﻄﻮل ﻓﻲ اﻟﻨﺎﺟﻴﻦ ﻣﻦ السرطان المواظبين علي التأمل وهو ما يعني وقاية أكثر من الأمراض فالتيلوميرات الأطول هي ضمانة لكبح الأمراض .

وفي دراسة أخري حول دور الأجهاد في أنقاص أطوال شرائط التيلوميرات فقد وجد أن ممارسة الرياضات الروحية تلعب الدور ذاته في المحافظة علي أطوال التيلوميرات وتحقيق حماية أكبر للخلايا وابطاء شبح الشيخوخة. كما يعمل التأمل علي خلق دماغ أكثر صحة عبر زيادة مستويات البروتين الدماغي المسمي عامل التغذية العصبي الدماغي (BDNF) مما يساعد علي نمو واصلاح الخلايا العصبية و يعززمن أداء الذاكرة والتركيز... كل هذا ليس سوي نزر يسير من الفوائد التي يمكن أن تتحقق لمن انتخبوا من التأمل طقوسا دائمة تسمو بالنفوس وتحقق لها الراحة والطمأنينة د.محمد فتحي عبد العال كاتب وباحث مصري

مواضيع ذات صلة