يا قاتل الروح..وين تروح؟..حديثٌ عن تشاؤم العقل وتفاؤل الإرادة بقلم الإعلامي القدير أ. مروان صواف/أيام كندية

من أين ننهل الحكمة؟ الجواب البدهي الشافي وفقاً للفكر المتداول بين الناس -إننا ننهل المعرفة والحكمة من أفواه غير العقلاء- ولكن، ما أكثر الذين يؤمنون بأن الحكمة أو الحقيقة غافية على الحدود الفاصلة بين أقصى العقل ومنتهى الجنون، هنا تكمن الحكمة الشعبية وهي التي أخذتني إلى عنواني المختار في مقال اليوم: يا قاتل الروح وين تروح؟. 
 
تبدأ قصتي الصغيرة من سيارة أجرة يقودها شابٌ عربيٌ مغربي في مدينة مونتريال بكندا ويعمل على الخط الفاصل بين المراكز الصحيّة والبيوت، سمعته يردد في يومٍ ماطر غائم تلك العبارة، وقادني الحديث المتداول عادةً بين الركاب وسائقيّ الأجرة عن مغزى  استخدامه لهذه الجملة فقال لي: ماذا تظن؟ إنني متألمٌ جداً من خبر مصرع صحفيِّ عربيّ في دارٍ دبلوماسية تخصُّ بلده بالغربة وبعيداً عن وطنه الأم، أجبته قائلاً: ولكن العبارة كما أراها أكثر شمولاً من هذا بكثير، لقد أخذتني أخوتك وأنت من المغرب العربيّ إلى جملةٍ من الأحداث المفجعة، بل لعلها أخذتني إلى مُغنّاةٍ فيروزية توّجت عرضاً رحبانياً شهيراً حمل اسم صحّ النوم وقدِّم إبّان فترة السبعينيات على مسرحٍ عربيٍّ دمشقيّ يحتضن الرحابنة عادةً حيث شدت فيروز بأغنيةٍ تقول كلماتها: "وين بدوّ الديب يهرب من وجه الشمس، وين بدو الطير يهرب من وسع السما، وين بدنا نهاجر، وين بدنا نسافر، وين بدنا نغيب من هالشمس يلي ما بتغيب" .. ثم ودعت الشقيق المغربي ولم أتوقع أن أعود إليه بعد فترة ضمن برنامج رحلاته، وعندما قابلته ثانيةً بادرته قائلاً: يا قاتل الروح وين تروح؟
فأجابني: هل عرفتني؟ فقلت: بالتأكيد واسمح لي أن أتابع الحديث بيننا: يا قاتل الأطفال في كل مكان إلى أين الملاذ، يا قاتل جورج فلويد في أميركا -وقد سمعت عنه يا صديقي- أين ستختبئ، يا مفجّر المرفأ في عاصمةٍ عربيةٍ اهتزت بعنف إلى أين ستمضي من وجه العدالة، يا قاتل الآمال والأفكار والأطفال والأحلام في كل ركنٍ إلى أين تمضي، يازارع الموت والجوع في أرض سوريا الحبيبة كائناً من كنت أين المفرّ وماذا ستحصد، يا قاتل المهدي بن بركة في عاصمة أوروبية إلى أين الملاذ؟ .. الأسئلة كثيرة أيها الشقيق الحبيب.. وبعد مغادرتي أخذت أفكر بأن عليّ أن أوّثق هذا الحدث في مقالٍ عربيّ يُنشر في الغربة التي جمعتنا معاً، ثم وجدت نفسي أمام سؤالٍ آخر أراه مهماً: ماذا سيظن القارئ العربي في بلد الأخ المغربيّ أو في بلدي أنا سورية، أو في أي ركنٍ من بلاد العرب أوطاني، ماذا سيظن بنا ونحن في قارة أميركا الشمالية، أليس من حقي أن أخشى، وحساب العقل والظنون أكبر من الخشية، وأليس من حق القارئ أن يعقب قائلاً: انظروا كيف يتجلى الترف في القول ونحن بعيدين عن أوطاننا نعلّق ونقيّم ونحلّل أوضاع أبناء بلادنا أليس هذا نوعاً من الترف والتسلية في الزمن غير المُترف، الزمن الذي يصفه البعض بالزمن الأغبر وقد أخذ مجتمع المواجع يصرخ من شدة الآلام، ألا يبدو المشهد وكأن الواحد منّا (خواجة) يمارس نوعاً من التنظير وهو بعيدٌ كل البعد عن تراب وطنه وهمومه، قلت لذاتي:
هل أجيب السائل بسؤال: ألا ترى أن للغربة آلاماً وأن للبعد معاناةً وفي بعض الأحيان ذلاً يصعب على المرء أن يصفه، ثمّ أما من معاناةٍ توحدنا معاً، ألسنا نعاني جميعاً من كارثةٍ تلخّصها كلمتان: جائحة ووباء، خشيت أن يأتيني جواب: كورونا قدر فهل تعترض على القدر الرباني؟ أخاف أن يتحول الحوار إلى هذا المشهد فأذهب إلى القول: إن من يستغل إصابة الناس بالوباء يستحق السؤال: يا قاتل الروح وين تروح وليس الوباء نفسه، من يندفع موغلاً بعجلة الفساد أكثر وأكثر، من يقتل الناس إهمالاً وبقصد، من يدعهم بلا علاج، من ينزع جهاز التنفس الاصطناعي بحجة أنني سأمنحه إلى شخصٍ آخر في عمرٍ آخر وإلى صدر يختلج بين الحياة والموت، أليس الهارب من دور العجزة والمسنين في بلدٍ متقدم وأِثناء ساعات الخدمة يستحق سؤال السائق المغربي الشقيق؟ من يجيب المسنين في العمر المصابين وهو يقرعون الأجراس طلباً لأدويتهم فيما الفريق المشرف هاربٌ من الخدمة في لحظةٍ صارخة قوامها الحزن والخذلان، ولكن ما يفكر به القارئ أحياناً قد يضعك في قائمة الخذلان وهذا مؤلمٌ جداً خاصةً عندما يتسائل: تحدثني عن جورج فلويد الذي قتله في لحظة خوف وهلع شرطي إبّان زمن كورونا جَثَم بركبته على رقبته لمدة ثمانِ دقائق وهو يتأوه ويصرخ قائلاً: "إنني أحسُّ بالإختناق يا سيدي أرجوك"، ثم أنت تحدثنا عن طبيبٍ لفظ أنفاسه في بلدٍ أوربيّ وهو يعالج المصابين في الجائحة بينما تنسى الأطباء العرب في وطنك وقد أخذوا يلتحمون بالمرضى وباللحم العاري أحياناً ودون أقنعة ولا قفازات أو أي مانعٍ يحول دون الإصابة، بل لعلك تغفو في لحظة عن واقع اللاجئين والمتألمين غير البعيدين عن عاصمة وطنهم، اسمح لي أن أصرخ في وجهك وفي وجه الشقيق السائق المغربي أوافقكما معاً بتبني السؤال: يا قاتل الروح وين تروح ولكنّي أختلف معكما في قياس درجة الألم.. أذكر واقعة شقيقي من المغرب العربي الحزين الصارخ بالحكمة وأعرف كيف ينهل الواحد منا الحقيقة من أفواه العقلاء وإن أدركتهم لحظة ضعفٍ في غربة تسلب منك القوة ولكنها لا تسلب الحكمة. ليس على المرء كما أتصور أن يعقد جلساتٍ لمحاسبة الذات مجرد إحساسه بعقدة النجاة ومن قال إنه نجى؟.. 
سأعود إلى شقيقي العربي في رحلة ثالثة ربما ومعي جهاز تسجيلٍ أو شريطٍ صغير عليه المُغناة الفيروزية الآسرة علها توضّح في مقطعٍ ثانٍ الفناء الخلفي الذي عاش فيه وخلّفه هارباً ربما هذا المسافر المغترب، تقول كلمات الأغنية وهي تصوّر لنا الفتاة العربية (قرنفل) التي سرقت الختم من حضن الوالي النائم الذي يصحو مرةً في كل شهر ليوافق على ثلاث معاملات مختارة فقط يحلم بتنفيذها أبناء قريته: "يا هالختم ، يلي عليك حبر الظلم، حبر العتم، حبر الضحايا العتيقة، حبر الدم، انزل عالبير ونام بالبير، مولاك اللي نايم شهر نايم ع حرير. من هلق للشهر الجاية، للقمر الجاية، ما حدا بيعرف شو بيصير"، وكأني أخاطب الذات قائلاً في مقالي القادم بعد شهر ليس لي مقدرة لا أنا ولا الشقيق المغربي ولا أي شقيق آخر على التكهن بإجابة ممكنة عن السؤال الذي شغلني منذ اللحظة الأولى: يا قاتل الروح وين تروح، فهل عند العقل جواب وهو يلتمس الحكمة من أفواه العقلاء، لأعترف موقناً أنني أبحث عن رحلة ثالثة مع سائقٍ أدعوه للإيمان والتسليم بالقول: إننا أمام الواقع المرّ ليس علينا إلا أن نقنع بالقول، لنواجه الواقع مسلحين بتشاؤم العقل لكن بتفاؤل الإرادة. 
 
سان لوران، كندا، كتبها مروان صواف لمجلة أيام كندية فجر الأول من أيلول سبتمبر ٢٠٢٠ 
 
 

مواضيع ذات صلة