أيام بلا ضفاف |1| رواية القاص الأستاذ محمد صباح الحواصلي/أيام كندية

☆ إنها لندن.. شتاء 1971
    الطائرة على وشك الهبوط في مطار هيثرو.
    الحلم الجامح الذي لم يتوقف عن الركض في مخيلتي على وشك أن يقفز إلى أرصفة لندن. أخيراً، وبعد طول انتظار، ستطأ قدماي أرض الضباب، سأمزق قشرة حلمي بعد دقائق من الآن وأخرج إلى أول يوم لندني. سيخرج حلمي من إطاره الخيالي إلى حيّز الواقع، من دفء الخيال وهناءته إلى برودة الواقع وقلقه. 
    وقصة حلمي مع السفر قديمة.
    بدأتْ عندما كنت في الخامسة عشر من عمري حينما بسطت أمامي على الطاولة أطلس العالم، وجعلت أمرر بشوق مبهم خطاً فاتحاً بقلم الرصاص على البلدان الأوروبية التي أتمنى أن أجول بها على متن دراجة نارية! كان قلم رصاصي يركض بسرعة طائشة على بسطة الخريطة كقطة صغيرة تلهو بكبكوبة صوف.. يسير بسهولة ويسر بين المدن والبلدان مجتازاً عقبات الجغرافيا والسياسة والعقائد وكأن العالم لا حدود له؛ رقعة سلام ممتدة من بوابات دمشق القديمة، إلى باب الهوى على الحدود السورية التركية، إلى المدن الأوروبية كلها العامرة بالبهجة والألوان في مخيلتي المفتونة، التي عبرها قلم رصاصي على الخريطة بجموح، وعاشتها مخيلتي برومانسية محلقة.
    كنت في ذلك السن المبكر أغض الطرف عن حقيقة جوهرية أنني لا أستطيع القيام بهذه المغامرة الصعبة، مدركاً أنها لا تليق إلا بالرحالة المغامرين (وكنت قد سمعت حينها وقرأت ما تيسر لي عن الرحالة السوري عدنان حسني تللو، الذي جال العالم على دراجته النارية عام 1957 وعن المصاعب والأخطار التي تعرض لها). ولكن هذا لم يمنعني من أن أحلم بسخاء، وأن أتجاهل المخاطر المهلكة وكأنها لا تخصني، وأضع نفسي في صورة القادر الذي لا يعجزه شيء، وأن أبدأ بادخار ثمن دراجة نارية من نوع (مشلس) كنت أراها في حارتنا. إنها دراجة بائع اللبن القريب من بيت جدتي في حي العقيبة، يحمل في جعبتيها أوعية اللبن ويجوب بها الحوانيت. كانت دراجة ضخمة.. ضخمة جداً على ولد في الخامسة عشر من عمره، وشكلها يشبه شكل الدراجات النارية التي نراها في الأفلام الأمريكية القديمة عن الحرب العالمية الثانية. ذات يوم سألت اللبان، الذي ربما كان في العشرين، عن ثمنها، فقال لي إنها دراجة قديمة وثقيلة وقيادتها صعبة وخطره، وأنني صغير على ركوبها، ويجب أولا أن تكون في الثامنة عشر حتى يجاز لك الحصول على رخصة قيادة دراجة نارية.
    فقلت له: "انتظر حتى أبلغ الثامنة عشرة.. سأدخر ثمنها من الآن."
    فقال لي حاسماً الحديث: 
    "إذن تعال لعندي، إن عشنا، بعد أربع سنوات ومعك 400 ليرة سورية."
    شعرت بعد كلماته أنني قد اجتزت الخطوة الأولى نحو حلمي. كنت تواقاً أن أصدقه، فبدأت أنسج أحلامي عن هذه الرحلة المستحيلة! انتظر مضي الأيام وأدخر القروش، ولكن ما أسرع أن عزفت عن التفكير بهذه المغامرة بعد أن رضخت وأقنعت نفسي بحقيقة كانت واضحة لا لبس فيها بأن والديَّ لا يمكن أن يسمحا لي بحال من الأحوال القيام بهذه المغامرة الطائشة، المحفوفة بالمخاطر. 
    وصار أن بلغت الثامنة عشرة، دون أن أجد أثراً لتلك الرغبة الجامحة بأن أشتري دراجة نارية لكي أقوم على متنها برحلتي إلى أوروبا، ولم يكن في حوزتي أصلاً حصالة أدخر في جوفها المئات الأربعة من الليرات السورية لكي أشتري تلك الدراجة من اللبّان. 
    غابت رغبتي بشراء دراجة نارية.. غابت تماماً وكأنها لم تكن ذات يوم تشغلني حتى الهوس، وكانت القراءة قد وجدت طريقها إلى مداركي، وبدأت بتأسيس مملكة الكتب في وجداني، التي تمكنتُ عبرها أن أطور فكرة السفر من مغامرة حالمة مستحيلة إلى سفر أنشد من خلاله حرية منشودة مشروعة بدأت تتفتح أزهارها بداخلي كما تتفتح أزهار البنفسج على أطراف الطرقات في البراري. وكان هذا الشغف يتجسد في جلساتي مع أصدقائي: ثائر جبران، وعبد الواحد مراد، وفؤاد موسى، وبسام زين الدين، ووليد هادي، الذين يحملون مثلي الشغف نفسه والرغبة نفسها في (الطفش) والسفر خارج حدود الوطن. كنا نجلس لساعات طويلة نتحدث خلالها عن لندن وباريس وروما وأثينا وبرلين، ونتغني بهذه المدن الكبرى ونتمنى لو تحملنا الأيام بلمح البصر إلى نهاية المرحلة الثانوية لنركب الطائرة ونطير إلى الفردوس المنتظر: أوروبا. ☆《القاص الأستاذ محمد صباح الحواصلي ل.. أيام كندية.. نُشرت في ١٥ اُكتوبر ٢٠٢٠》
 

مواضيع ذات صلة