بين التفكير.. و.. التكفير هذه الواو القاتلة بقلم فارس بدر/ أيام كندية

يعيش ”المجتمع الدولي“ بشكل عام، حالة من القلق والتوتر إزاء ما يحدث من كوارث بيئية واجتماعية واقتصادية وسياسية، من صناعة الطبيعة حيناً covid19 ومن صناعة الإنسان أحياناً أخرى Black Lives Matter, حيث تتزاحم القراءات والتحليلات لرصد أسباب هذه المتغيرات ودراسة العوامل المؤثرة في انبثاقها وتكونها وطريقة اشتغالها. 
ولا يخفى في هذا السياق الحجم الكبير ـ كما ونوعاً ـ لمجموع النتاج الفكري والنظري والعلمي وما يترافق مع ذلك من حالات تَشابُه تصل إلى حدود التطابق والتماثل وحالات تَفارُق تصل إلى حدود التضارب والتصارع.
 
وما ينطبق أحياناً في ميادين العلم قراءة وبحثاً وتحليلاً واستنتاجاً، ينطبق على ميادين الاجتماع البشري قراءة وبحثاً وتحليلاً واستنتاجاً، حتى ولو أن أجهزة القياس والتقنيات المستخدمة في كلا الحقلين مختلفة باختلاف الظروف الموضوعية. في النهاية، هذا هو المجتمع ببساطته وتعقيداته، بنعومته وتجاعيده، بتوحده وتنوعه، بتماثله وتناقضه، بسكونه وغليانه، وأخيراً وليس آخراً بهدوئه واضطرابه.
 
هذا التوصيف للاجتماع الإنساني يقدم مشهداً مركباً ومعقداً ومتداخلاً حيث أنه من الطبيعي جداً أن تتنوع الناس في قراءتها لهذا المشهد، وذلك بتنوع ”العدسات“ الاجتماعية الناظمة لعملية القراءة. هذه ”العدسات“ الاجتماعية ترتبط بدورها وتتأثر بعدد من المكونات والعوامل: الموقع الاقتصادي/الاجتماعي، البيئة الثقافية، الانتماء الإيديولوجي، التجربة الشخصية، وديناميات أخرى متفاعلة ومتداخلة تتحدد في محصلتها كتلة من ”السلوكيات“، منطقاً وتحليلاً وأداءً.
 
ما أريد قوله من خلال هذه المقدمة أن قراءة الحدث ـ أي حدث ـ عبر وضعه على المشرحة تحت مبضع ”العلم الصرف“ أو على الطاولة تحت مجهر ”العلم الاجتماعي“ سيأخذ أبعاداً متنوعة بتنوع ”العدسات الاجتماعية“ السالف ذكرها، وهذا أمر طبيعي ومنطقي لا ينفع معه نقاش ولا يستقيم معه جدال عقيم. 
 
غير أن التحدي الأكبر في نظري ينطوي في القدرة على اجتراح صيغة مثالية تؤمن أن ”التنوع في إطار الوحدة“ أمر متاح لا بل أمر مشروع، تقتضيه وتمليه التعقيدات المحيطة ـ بالحدث ـ وما ينجم عنها من قراءات وديناميات متنوعة ومتداخلة.
 
في هذا الأمر الأخير احترام للإنسان بما هو قيمة فكرية، شعورية، ثقافية، إنسانية، وليس امتداداً لعقل رصاصي مستبد، يعتبر أن في استحضار ”النصوص الجاهزة والمعلبة“ بديلاً لرغبة العقل في الإبداع. 
 
هذا العقل الذي يصنفه العارفون بـ ”الشرع الأعلى“ كان نتاجاً لأدبيات كبيرة مبدعة، قرأتها عقول جافة ومتصحّرة، راهنت على الانغلاق بديلاً عن الإبداع، والتقوقع بديلاً عن الانفتاح، الجمود والانكماش بديلاً عن الحركة والتفتح والتكلس الفكري والثقافي بديلاً عن القاعدة السياسية التي تقول أن ”المبادئ للشعوب وليست الشعوب للمبادئ“. 
 
وأخيراً وليس آخراً التخوين والتكفير بديلاً عن الثقة والتفكير، لأن الانحياز للحكمة والتعقل يشكل دائماً طريقاً شائكاً وصعباً أمام الذين يجدون في ”الاتهامات“ و”التكفير“ طريقاً سالكاً وسهلاً.
 
وانطلاقاً من بعض هذه المفاتيح النظرية والمعرفية بالإمكان نقل ”المجهر الاجتماعي“ إلى منطقة محددة تختمر فيها ”موروثات جينية“ في التاريخ والاجتماع والاقتصاد والتراث وتتفاعل فيها تجارب وخبرات وسلوكيات في السلطة والديمقراطية والسياسة وحقوق الإنسان والحريات وقوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج ـ فكراً واقتصاداً ـ وما يفرزه ذلك من آليات ومؤسسات ومفاهيم ودساتير وأعراف ومنظومات قيم.
 
هذه المنطقة المحددة هي ”عالمنا العربي ومحيطنا القومي حيث هناك " إرهاصات “ فيها محاولة للخروج من نادي الملوك والرؤساء والأمراء إلى نادي الشعوب والمواطنين، للخروج  من عقود لا بل قرون من التسلط والاستعباد والاستبداد، إلى رحاب الحريات والديمقراطية بما هي حقوق الأفراد في الاجتماع والرأي والتعبير والانتخاب وآليات لانتقال السلطة وتناوبها، من أقفاص الأديان والمذاهب والملل والعشائر والانتماءات المجزئة والمدمرة إلى رحاب المجتمع المدني القائم على المسؤوليات والشفافية والمحاسبة والمساءلة وحقوق الإنسان، من احتكار الثروة إلى العدالة في توزيعها. 
 
إنها إذن معركة الإنسان العربي بامتياز وستكون معركة معقدة ومتداخلة فيها داخلياً الإنسان الشريف الملتزم، والانتهازي الرخيص، المندس  المتآمر والطائفي المتزمت، المنفتح المتحرّر والسلفي المنغلق، وفيها خارجياً قوى تفتش عن مصالحها واستراتيجيتها ومواقعها على خريطة المنطقة وثرواتها وما سينجم عنه من متغيرات مفترضة على موازين القوى الداخلية والإقليمية والدولية.
 
ما أريد أن أقوله اختصاراً أن هذا المفصل التاريخي في عالمنا العربي يضعنا في ”المغتربات“ أمام الامتحان الصعب والتحديات الثقيلة والخيارات الصعبة باعتباره مساحة للتفاعل وإعمال العقل وتوسيع حلقات النقاش وتفعيلها وليس مناسبة للاصطفاف المذهبي والديني أو السياسي والإيديولوجي. إنها لحظة تاريخية لاختبار قدرتنا على بناء ”ثقافة احترام الآخر“ كونها عصارة لتجربة حضارية فريدة أفرزت نظاماً سياسياً متعدداً ومتنوعاً في إطار وحدة اجتماعية يحمل التجانس في تداخلها تنوعاً، والتنوع في بنيتها، توحداً في الانتماء إلى مؤسسات المجتمع المدني بسائر قوانينه وتشريعاته
 
ليس المشهد العربي اليوم مناسبة لقراءات مبسطة تختزلها عبارات مبسطة كالقول مثلاً: عودة ”الفكر السلفي“ أو ”نظرية المؤامرة“ أو نتاج ”لغرف سوداء في دوائر صناعة القرار“ أو ”الخرائط الجديدة على طاولات مكاتب الهندسة الاستعمارية“، أو سايكس بيكو جديدة لاحتواء الحراك الشعبي وإجهاضه. 
 
إن بعضاً من ذلك يشكل جزءاً من هذا المشهد، غير أن اقتصار الرؤية عليه يحذف الشعوب وإرادتها من 
المعادلة ويحول دماءها وعرقها وتضحياتها إلى مياه لا لون لها ولا طعم. كذلك الادعاء بمعرفة مسبقة لنتائج هذا ”الحراك الشعبي“ وإسقاط العبارات”الثوروية“ عليه يشكل اختزالاً لعملية معقدة ومركبة وطويلة تتداخل فيها عوامل ”التقدم والتراجع“، ”الربح والخسارة“، ”التردد والحسم“، ”الكر والفر“،  لدرجة أنه بالإمكان أن يتحول هذا ”الحراك" إلى صيف فيه وضوحاً كزرقة السماء أو شتاء تحجب غيومه رؤية الغد القريب والمستقبل البعيد..
 
إن الانخراط في عملية ”التفكير“ اغترابياً أي على رقعة الانتشار العربي في كندا وخارجها يساهم في إنضاج الظروف الموضوعية لبناء مداميك التغيير التدريجي في مغترباتنا التي اخترناها طوعاً وفي عالمنا العربي ومحيطنا القومي الذي هجرناه قسراً. في حين أن الانخراط في عملية ”التكفير“ لن يساهم إلا في تعميق التصدع اغترابياً وحرمان الوطن من طاقات وإمكانات ومواهب هجرته وهو في أمس الحاجة إليها.
 
إنّ الحقّ  في " التفكير " لإنتاج وابتداع الصيغ البديلة في سياق عملية التغيير المنشود، طريقاً إلى الحداثة والتطوّر، يستلهم النصوص العلمانية المدنية لمشروعيته ومشروعه،  يصطدم بمشروع " التكفير" الذي يستمدّ جذوره من النصوص السلفية والدينية الديماغوجية. 
 
إعتقادي أنّ المستقبل مشرّع أمام تلك القوى االنهضويّة المتنطّحة لقيادة عملية التغيير إذا ما أحسنت قيادة السفينة في مواجهة الأنواء والأعاصير.

مواضيع ذات صلة